ياسين عدنان«شاعر في نيويورك» هكذا جاء عنوان آخر ديوان أصدره فدريكو غارثيا لوركا في حياته عام 1929، وعبَّر فيه عن صدمته إزاء المظاهر الصاخبة للحضارة الأميركية التي عكَّرت صفو مزاجه الأندلسي. لكن «ديوان التماريت» الذي كتبه لوركا بعد عودته من نيويورك، وأعدَّه للنشر قبيل اغتياله، جاء ليؤكد أنّ شاعر غرناطة الكبير إنّما هرب من نيويورك ليعود إلى ذاته ووجدانه الأندلسيين. لكن اليمين الكاثوليكي المتحالف مع الفاشيست سيغتاله عام 1936، ولن يصدر «ديوان التماريت» في غرناطة كما أراد صاحبه، بل في بوينوس ايريس عام 1940. ومن الواضح الآن أنّ الشعر الإنساني فقدَ لوركا وهو في منعطف حاسم من تجربته الشعرية، أي في اللحظة التي قرر فيها العودة للإقامة في قلب حلمه الأندلسي. قبيل وفاته مباشرةً، صرَّح لوركا لصحيفة El Sol التقدمية: «أنتمي لغرناطة التسامح. غرناطة ما قبل السقوط في يد الكاثوليك». وهو الانتماء الذي اتضح في هذا الديوان الذي صدر أخيراً عن منشورات وزارة الثقافة المغربية بترجمة وتقديم للشاعر المغربي محمد الميموني.
منذ العنوان نحن في ضيافة الأندلس Divàn del Tamarit. «الديوان» كلمة عربية ذات أصل فارسي، تبنتها اللغة الإسبانية بمعناها العربي. أما «تماريت» فكلمة أمازيغية تعني العاشقة، ويُطلق هذا الاسم على قرية كانت ضمن أملاك ملوك غرناطة المسلمين، وذلك في منطقة «فوينطي باكيروس» حيث ولد لوركا، بضعة كيلومترات فقط خارج غرناطة.
وتماماً كما لو كنا بصدد قصيدة عربية تقليدية، استهل لوركا «ديوان التماريت» بالغزل والبكاء على الأطلال، ووصف آثار الأحبة في 12 «غزلية» Gacelas قبل أن يبلغ بيت القصيد في القسم الثاني من الديوان الذي يضم تسع «قصائد» Casidas. وفي هذه القصائد بالذات سيتضح أنّ الوقت الطويل الذي قضاه لوركا في خزانة الدائرة الفنية في غرناطة عاكفاً على شعر ابن شهيد وابن حزم وابن زيدون وابن قزمان وابن زمرك وغيرهم من شعراء الأندلس لم يكن عبثاً. فصُوَر الغزل العربي العذري تكرّرت كثيراً في «ديوان التماريت» كما هي الحال في صورة الخد الشاحب حتى الموت بسبب الهجران المألوفة في الشعر العربي. هذا من دون الحديث عن تكامل الردف الثقيل والخصر النحيل باعتباره قمة الجمال الأنثوي في الذوق العربي: «رُؤْيتُكِ عاريةً تذكيرٌ بالأرض الملساء/ الخالية من الخيول/ رؤيتُكِ عاريةً / إدراكُ شوق المطر الباحثِ عن قوام نحيل». بل لن يتردد لوركا في «قصيدة جريح الماء» في استعادة صورة الجدول الذي يكون مثل السيف في سكونه ومثل الزرد إذا حرّكته الريح في أبيات ابن الزقاق البلنسي: «نثر الورد بالغدير وقد/ درجه بالهبوب مر الرياحِ/ مثل درع الكمي مزقها الطعنُ/ فسالت به دماء الجراحِ». يقول لوركا: «برَكٌ وأحواض وينابيع/ كانت ترفع سيوفها في وجه الهواء/ يا للحب الصاخب والحد الجارح».
ورغم أنّ لوركا لم يكن يخفي غيرته من ابن زمرك صاحب أفخم ديوان شعري في العالم لأنّ قصائد هذا الأخير تغطي جدران قصر الحمراء وتزيّن قاعاته وتحيط بأحواضه ونافوراته، فإنه سيغادر الحمراء ليعتكف في مزرعة «التماريت». ومن هناك حاول أن «يتسلّق جدران غرناطة». غرناطة التي بدت له مرةًَ «عالماً من ألف شرفة» و«سماءً بألف نافذة» ومرة أخرى مثل «قمر مغمور بالعلّيق».