بحثاً عن دوستويفسكي في «منزل الأموات» المصري

روايته الجديدة تدخل إلى عالم شديد الظلمة: إنّه عالم السجن ــــ الذي خاض فيه أيضاً إبراهيم أصلان وخيري شلبي... ــــ بكلّ ما يحمله من قسوة وبطش... لكنّ السجن هنا هو مرآة لمجتمع مشوّه ونظام رديء. أحد أبرز كتّاب جيل الستينيات المصري، يرسم لنا عالماً مجازياً كئيباً إلى درجة الرعب

القاهرة ــــ محمد شعير
عندما أُعلن مقتل المغنّية اللبنانيّة سوزان تميم، كان الروائي محمد البساطي مهتمّاً بالتفاصيل: كيف تمّت الحادثة؟ مَن وراءها؟ كيف يدفع رجل أعمال مفترض أكثر من مليوني دولار مقابل مهمّة قتل؟ أسئلة كثيرة جعلتنا نسأله من باب الدعابة: «هل «سوزان وهشام» مشروع روايتك المقبلة؟ أجاب في منتهى الجديّة: «مصر تحتاج إلى دوستويفسكي لينقل لنا تلك الصورة المشحونة بكل هذا العبث واللامعقول»!
لكن إن أردتَ أن توثّق هذه اللحظة التي نعيشها روائياً مثلما فعل نجيب محفوظ في روايته «اللص والكلاب»، المستمدة من جريمة حقيقية وقعت في الستينيات، فماذا كنتَ ستكتب؟ يجيب فوراً: «لقد كتبت ما يحدث بالفعل في روايتي «أسوار». فداخل هذه الأسوار، يعيش أغلب الشعب وتشعر بالقمع الذي يعيشونه، لا يشعرون بأمل في أي شيء، كل ذلك من دون الدخول في تفاصيل الواقع التي ستضعف العمل». ويشير إلى أنّ «الواقع في اللحظة الحالية يفوق الخيال. ولو أنّ كاتباً كتب ما يحدث، فلن يصدقه أحد. ولذا الأفضل وقت الكتابة أن تبتعد عن الواقع وتكتب بما يوحي فقط». يوضح البساطي فكرته: «عندما كتب نجيب محفوظ «اللص والكلاب»، خرج من معمعة الفساد وجاء بشخصية أوحت بالانكسار الرهيب الذي تعيشه البلاد حينها».
«أسوار» أحدث روايات البساطي أبرز كتّاب جيل الستينيات المصري، صدرت في طبعتين: الأولى عن دار «الآداب» البيروتية، والثانية عن دار «أخبار اليوم». وهي مثل سائر أعمال البساطي مغامرة كتابية جديدة، يقدّم فيها عالم السجن القاسي وأسواره العالية، ويرسم علاقات البشر فيه، المحكوم عليهم بالإعدام، والحراس، والضباط، والمأمور، وحتى جيران السجن أصحاب البلوكات، والطقس السيئ الذي يتضافر مع أمور أخرى لإضفاء الصرامة على هذا العالم.
يهتمّ البساطي بكل بالتفاصيل، من خلالها يرسم لوحةً مرعبة عن هذا العالم الرمادي الكئيب. على لسان الراوي الذي سعى والده إلى تعيينه بديلاً له في السجن، بعد إحالته على التقاعد. ورغم أن البساطي يكاد يكون الكاتب الوحيد من جيل الستينيات الذي لم يدخل السجن، إلا أنّ هذه هي المرة الثانية التي يستلهم فيها صاحب «الكبار والصغار» هذا العالم القاسي والصعب، بعد مجموعته القصصية «محابيس». يوضح الكاتب: «قبل أن أتقاعد، كنتُ أعمل في الجهاز المركزي للمحاسبات، وهو جهاز رقابة على الأجهزة الحكومية كلها. وبقيت أفتّش عن مصلحة السجون خمس سنوات، وأستطيع القول إنّه لا يوجد سجن في مصر لم أره ولم أزره». مرةً واحدة دخل البساطي السجن «متهماً» وليس «مفتشاً»... يضحك: «كانت مع الكاتب الراحل إبراهيم منصور. قرّر الاحتجاج على معاهدة كامب ديفيد وزيارة السادات للقدس، فكتب كلمة «لا» على لوح كبير، وقرر أن يخرج به من مقهى «ريش» في شوارع القاهرة، وكنت أمر به مصادفةً، فقبضوا علينا».
المدهش أنّ ثمة انفجاراً روائياً حول السجون في الفترة الأخيرة. إذ كتب صنع الله إبراهيم روايتين عن هذا العالم: «تلك الرائحة» و«شرف»، وأصدر خيري شلبي «صحراء المماليك»... فما الاختلاف بين تناول البساطي للسجن، وتناول الكتّاب الآخرين له؟ يجيب: «لم أكن أريد الخوض في عمليات التعذيب والحياة القذرة المهينة للمساجين والمعتقلين، لأنّ عالم السجون معروف. ولعل الكتاب القمة هو عمل دوستويفسكي «ذكريات من منزل الأموات»، حيث قدّم تفاصيل مروعةً عن عذاب واضطهاد السجناء. أردتُ في «أسوار» الابتعاد عن فكرة البطش التقليدي ومشاهد التعذيب. كُتب عن كل ذلك كثيراً، ويمكن أن يكون موت شهدي عطية أكبر مثال على عمليات التعذيب... وقد كتب أيضاً عن موته الكثير. لذلك عملت خلطة بين الحراس وحياتهم في ما يشبه المستعمرة: بيوت خاصة بهم هي «بلوكات»، وعلاقتهم ببعضهم وبالسجن». ويواصل: «لم أتوقف عند الأسوار، بل تجاوزتها إلى منطقة بلوكات الحراس، ورصدت علاقتهم ببعضهم في إطار أنّهم يعيشون في بقعة معزولة، وكان في رأسي دائماً بطش النظام لا بطش الحرّاس».
أفاد البساطي أثناء كتابته الرواية من العديد من مذكرات السجناء السابقين، تحديداً ما كتبه المفكّر الراحل لويس عوض. وهناك أيضاً عامِل نسيج سكندري كتب مذكراته، وأشار فيها إلى أنّ المعتقلين طلبوا من لويس عوض إلقاء محاضرات عليهم، لكنه رفض أن يحضر هذه المحاضرات غير الجامعيين. لكن ليست هذه الحادثة الوحيدة التي بنى عليها روايته صاحب «حديث من الطابق الثالث» و«المقهى الزجاجي»: «كنت أقوم بالتفتيش على أحد السجون، ورأيت خلال إحدى زياراتي رجلاً تبيّن لاحقاً أنّه مدير مكتب المشير عبد الحكيم عامر. وكانوا يضعون بينه وبين المساجين حاجزاً. الغريب أنّهم كان يخافون من المعتقلين (السياسيين) على المساجين (مساجين الحق العام)، خشية أن يشوّه أولئك أفكار هؤلاء». يشرح: «من وجهة نظري، السجن مجتمع يمثّل الشعب المصري وهو رمز له. هناك قوى غامضة تشعر بأنّها تسيطر على هذا المجتمع وتحرِّكه عبر أوامر تأتي من المباحث. قدّمتُ هذه السلطة في الرواية كصوت خافت، إذ عندما يكون الرمز واضحاً، يصبح غير محبوب بالمرة».
لكن ماذا عن التداخل بين الواقعي والمتخيل في الرواية؟ يجيب: «استفدت من حادثة الاعتداء على الصحافي عبد الحليم قنديل لأنّها حادثة شديدة البشاعة، ولا يمكن أن تُنسى حتى الآن، لأنّ هذا لا يحدث في أي مجتمع سليم. لكنّها حدثت في مجتمع مشوه ورديء، يسيطر عليه نظام مشوّه. وكنت أكتبها حتى أُظهر بشاعة أدوات البطش في أيدي النظام». بشاعة هذا الواقع لا يؤثر فقط على المساجين، بل على حرّاس السجن. إذ يصابون بالخبل والجنون في النهاية». ماذا عن النهاية؟ هل كانت مقصودة؟ «الفكرة طرحت نفسها أثناء كتابة الرواية. فمن الطبيعي أن تؤدي مهمة مراقبة المساجين طوال اليوم وتعذيبهم وضربهم إلى الخبل... فبعد حياة وظيفية تمتد 30 عاماً في هذه الحياة القاسية وعزلة حراس السجن، لا بد من أن يكون ذلك مصيرهم»!