المشروع التوثيقي الذي تبنته «دار ممدوح عدوان» في «دمشق عاصمة الثقافة العربية 2008»، يتيح قراءة بانورامية لتاريخ الأدب المسرحي في سوريا، منذ الرواد وحتّى الكتّاب الشباب. 26 كتاباً أو محطّة في مسيرة عمرها أكثر من قرن
خليل صويلح

أطلقت «دار ممدوح عدوان للنشر» مشروعاً طموحاً لتوثيق المسرح السوري، بدعم من الأمانة العامة لاحتفالية «دمشق عاصمة الثقافة العربية 2008». ويعيد المشروع تسليط الضوء على مجموعة نصوص، بصفتها حلقات متكاملة في رحلة بانورامية عبر تاريخ الكتابة المسرحية في سوريا. والنماذج المختارة التي تمتدّ من أعمال الرواد الأوائل إلى اليوم، ستُنشر في 26 كتاباً. إنّها محاولة جدّية لترميم ذاكرة المسرح السوري، واختبار تحولات النص المسرحي عبر قرن ونيّف من عمر هذا المسرح العريق، سواء لجهة الموضوعات، أو لجهة تقنيات الكتابة. هكذا سيتعرف القارئ إلى واحد من أقدم النصوص المسرحية السورية، وهو «ناكر الجميل» لرائد المسرح العربي أبي خليل القباني (1833ــــ1903)، صاحب أول فرقة مسرحية في سوريا الذي انتهى منفياً بعد إحراق مسرحه.
في «ناكر الجميل»، يلاحظ القارئ امتلاك القباني أدوات الكتابة المسرحية بإحكام، ومقدرته على التنويع في أساليب التشخيص. أسس هذا الرائد لمسرح غنائي ينهض على التراث السردي العربي والأمثولة، باستعادة شخصيات تاريخية تجد نفسها في محاكمة علنية بوجود الملك والوزير والسياف، لينتصر الحق في نهاية المطاف.
وإذا كان القباني استمد معظم نصوصه من «ألف ليلة وليلة»، فإن مسرحياً آخر هو عبد الوهاب أبو السعود (1897ــــ1951)، يلتقط مقوّمات المسرح الحديث على نحو أوضح... وخصوصاً أنّه درس التمثيل في القاهرة على يد الفنان جورج أبيض. وهو في مسرحيته «وامعتصماه» (1944)، يذهب إلى التاريخ لإثارة حماسة الجمهور، عبر حادثة مشهورة جرت في عهد الخليفة العباسي المعتصم. ونلاحظ أن الكاتب ترك لنفسه حريّة تصرف تتطلبه الخشبة والخيال المسرحي. أما خليل هنداوي (1906ــــ1976)، فالتفت إلى الأساطير الإغريقية القديمة، معولاً على فكرة أساسية: الأسطورة، سواء كانت شرقية أو غربية، هي مادة مسرحية بامتياز «ينبغي أن تكون مرجعاً لتفسير الأفكار والمعتقدات الضاربة جذورها في حياة الإنسان، لأنّها تحمل بصدق وصراحة كل ما كان يرتعش في قلبه وعقله يوم ارتعشت به الحياة».
والنصوص المسرحية السورية المبكرة، لا تخرج في مجملها عن استلهام التاريخ، واستنفار الأحداث المؤثرة... والجملة الصوتية الطنّانة من نوع «ثكلتك أمك» أو «أصبح في نظري أقل ضعة من الحمير، وأصغر عقلاً من البعير» (وصفي المالح). ولعل الانعطافة الحقيقية في كتابات الرواد جاءت مع حكمت محسن (1910ــــ1968)، فهذا القصاص الشعبي أول مَن أدخل اللهجة المحكية إلى المسرح السوري، وأدار ظهره للمعالجات التاريخية المتكلّفة، ليبتكر شخصيات شعبية قريبة من منطق الحياة اليومية في الحارة والشارع، في مفارقات كوميدية وساخرة تستدعي روح مسرح تشيخوف على نحو خاص. في مسرحيته «صابر أفندي» نتعرف إلى شخصية شعبية تعيش مكابدات حياتية وصراعات قاسية تفرضها صعوبة العيش، لينتهي خادماً في بيت أحد الأغوات، وينتقم لنفسه بالسخرية من شخصيات المجتمع المخملي. هكذا يتوغل محسن في الهموم اليومية للناس في حسّ شعبي حار، لتتحول الخشبة إلى مرآة تعكس وجوهاً وشخصيات طالما كانت ثانويّة أو على الهامش، فيكتب عن «أبو زينب بياّع الحلاوة» و«بيت للإيجار». وبذلك يمكن اعتباره مؤسس المسرح الكوميدي في سوريا، وقد سار على خطاه كاتب مسرحي آخر هو وليد مدفعي الذي مزج في نصوصه بين الفصحى والعامية، كما في مسرحيته «وبعدين».
في مطلع الستينيات، سيقتحم محمد الماغوط المشهد ويحطّم ثبات الخشبة بصوته الغاضب والمجروح، ليؤسس لثنائية العصفور والقفص. هكذا جاءت مسرحيته الأولى «العصفور الأحدب» (1960)، بمثابة بيان ساخط في الرعب والخوف والحرية، فتتجاور على الخشبة صورة الجلاد والضحية، ويتحول العالم إلى سيرك كبير: سياط وسحل، ودورة مياه وضمادات ملطّخة بالدم وسجناء، ووحل وجدران عفنة وشخصيات مشوّهة. بهذا المزاج الحاد أتى الماغوط إلى المسرح مثل «قائد يسير خلفه جيش مهترئ، منكوب وأرمد». وفي «المهرج»، سيستحضر شخصية صقر قريش ونكبة الأندلس من موقع مغاير. وإذا بسيف هذا البطل يغطيه الغبار... حتى إنه في المآل الأخير «لا يصلح لتقشير البصل». وفي نصوصه اللاحقة، سيبتعد الماغوط عن مناخاته الساخطة، ليؤسس مع دريد لحام مسرح النكتة السياسية باعتماد العامية والأغنية الناقدة والمانشيت الساخن.
وسنتعرف بفضل مشروع «ذاكرة المسرح السوري» إلى فضاءات مسرحية أخرى، تجسّدت في نصوص وليد أخلاصي صاحب «سهرة ديموقراطية» و«الصراط» و«مقام إبراهيم وصفية». هذه النصوص التي عالجت قضايا راهنة من موقع النقد الاجتماعي للطبقة المثقفة. ومع ممدوح عدوان، سيشتبك النص المسرحي مع الراهن في خنادق مختلفة، وأساليب مسرحية متباينة تتكئ على الشعر حيناً، والموال الشعبي أحياناً... أو تقوم على استعادة شخصيات تاريخية ومحاكمتها من موقع مضاد. في «ليل العبيد» (1977)، يستعيد شخصيات تاريخية مثل الحطيئة ووحشي وأبي سفيان، ويكشف عن آلية الصراع بين السادة والعبيد من الجاهلية إلى اليوم، ويضع هذه الشخصيات في مهب اليأس والأمل. ألهذا السبب مُنعت المسرحية يومذاك من العرض، في ليلة الافتتاح؟
ونصل إلى أعمال سعد الله ونوس الإشكالية، وبينها «طقوس الإشارات والتحولات» التي ستصدر في طبعة خاصة عن «دار الآداب» بالتعاون مع احتفالية دمشق عاصمة الثقافة العربية. هنا نكتشف رؤية مغايرة في استلهام الحادثة التاريخية. إذ ينحّي ونوس جانباً الأقنعة التنكرية لشخصياته، ليواجهها بحقيقتها وخزيها ودمارها، في تأمل فردي للتاريخ: شخصيات شكسبيرية تعصف بها الأهواء والنوازع، وترهقها الخيارات واهتزاز الهويات. هكذا، تتغير قواعد الفرجة وتذهب إلى التأويل بكل جرأة ومكاشفة. كأن صاحب «منمنمات تاريخية» أدرك مفهوماً آخر للكتابة المسرحية، يتجاوز رؤيته في مسرح التغيير، فيذهب إلى السرد من أوسع أبوابه.
ويفرد مشروع «ذاكرة المسرح السوري» مجلدين لكتابات المسرحيين الشباب، لفحص ما طرأ على النص المسرحي الجديد في المعالجة وتقنية الكتابة، وقبل ذلك كله، افتراقها أو اشتباكها مع موروث المسرح السوري. عشرة نصوص تضيء أحوال شخصيات مرتبكة وعزلاء تواجه جحيمها الفردي، من دون أن تجد جداراً استنادياً تتكئ عليه لتفضح مصائرها وعريها وموتها الأكيد.


إعادة الاعتبار إلى النصّ

يطمح مشروع «ذاكرة المسرح السوري» إلى تأكيد أهمية النص المسرحي المقروء، ليس انتقاصاً من أهمية الجانب البصري والمشهدي من العملية المسرحية، بل سعياً إلى كسر حالة العزلة التي يعانيها هذا النص، باعتباره جنساً أدبياً قائماً بحد ذاته. كذلك يتطلع المشروع إلى إيصال هذه النصوص، وخصوصاً الحديث منها إلى الخشبة، ليكون نشرها في هذه السلسلة خطوة أولى على طريق خروجها إلى النور، مثلما سيكون فرصة للباحثين والدارسين في إلقاء نظرة شاملة على سيرورة تطور النص المسرحي السوري ومناهجه وتياراته المختلفة.
اعتمدت لجنة قراءة النصوص في «دار ممدوح عدوان» التي تديرها إلهام عبد اللطيف، في اختياراتها على التسلسل التاريخي في كتابة هذه النصوص، وأهميتها في تجربة كل كاتب على حدة، والتوقف عند أبرز الأسماء في تاريخ المسرح السوري، من أبي خليل القباني إلى آخر كاتب شاب ما زال يتلمس طريقه إلى الخشبة.
أهمية المشروع لا تمنع القارئ من اكتشاف هفوات واضحة في صلب العملية التوثيقية وذلك بغياب تواريخ كتابة بعض المسرحيات، إذ يصعب التعرّف بدقة إلى تاريخ كتابة مسرحية «ناكر الجميل» لأبي خليل القباني مثلاً، أو حتى «ليل العبيد» لممدوح عدوان. وكان ينبغي ـــــ كما نعتقد ـــــ توثيق كل ما يتعلق بهذه النصوص من جهة وتاريخ أصحابها من جهة أخرى، للتعرف إلى المرحلة التي ينتمي إليها هذا النص أو ذاك.