خليل صويلح
الجسد يضجّ بالمعاني ويزخر بالمجاهيل، تلك هي الفكرة الجوهرية التي يضمّها كتاب إبراهيم محمود «وإنما أجسادنا... إلخ» (الهيئة العامة للكتاب ـــــ دمشق).
الكتاب قراءة بانورامية في طوبوغرافيا الجسد في ترحاله وانكماشه وصحوته وشهوانيته، قبل أن يخضع لمنظومة من القيم والقوانين والقواعد الصارمة التي وضعته في حيّز محدود ورمزي تبعاً لجغرافيته.
لا يكتسب الجسد خاصيته الإنسانية إلا من خلال اسم يميّز صاحبه عن سواه ليدخل في فضاء المعنوي. وهو حين يجرَّد من اسمه كما هي الحال في السجن، يُهان ويُحال إلى رقم لتبديد هويته الإنسانية، فالاسم «شهوة معترف بها. لهذا كان اختيار الاسم رهاناً على الجسد، وترجمان رغبة».
تراوح فعالية الجسد بين الحركة والسكون في إيماءات محسوسة أو معنوية، سواء في ما يخص الحواس أو لجهة الزي، فالجسد الأنثوي السافر يمارس إشارات مختلفة تماماً عمّا يمارسه الجسد المحجّب الذي يعيش في عالم مؤطر أشبه بالإقامة الجبرية على رغم حركيته وتجواله في المكان. نحن كما يشير محمود «لا نعيش في أجسادنا، بقدر ما نعيش بالملحق بها غالباً». هكذا فإن الوشم الخارجي يؤرخ الجسد، ويغدو مقروءاً شبقياً ومعرفياً. إذ يعاد تركيب الجسد بطريقة جديدة تبعاً للقراءة الذكورية عبر مفاصل الجسد وعلاماته الإغوائية.
ويلحظ صاحب «الشبق المحرّم» أنّ تدوين الجسد تاريخياً عبر الكتب المقدّسة بقصد لجم شهوات الجسد «محاربة الجسد في غرائزه لئلا تتكرر الخطيئة الأولى (خطيئة حواء) مسيحياً، و(المرأة عورة) إسلامياً».. هذه النظرة أسهمت بقمع الجسد الأنثوي على نحو خاص، واختزاله وتقزيمه، ما دامت المرأة مخلوقة من ضلع آدم، وتالياً فهي ليست مستقلة بل تابعة. وبعيداً من المقدّسات، فإن التاريخ الراهن حوّل الجسد إلى سلعة للاستعمال سواء عبر العنف المادي أو المعنوي، وثنائية الرغبة وغريزة التدمير والقتل.
ويربط إبراهيم محمود الرقص والقناع والجسد بمفهوم واحد، فالرقص يُعبّر عنه جسدياً. أما القناع فهو مجرد «طيَّة جسدية» لإخفاء جانب من الجسد، بينما يحملهما الجسد بقصد الارتقاء بمعناه وخلق لغة طقسية مبتكرة تراود المستحيل، وبهذا المعنى «يدخل الرقص في فضاء الاختزال والتمويه والتجريد».
الرقص في معنى آخر هو لغة الجسد وأبجدية معيشة بالحواس الخمس، فيما يقع الرقص الصوفي مثلاً في موقع مضاد يقود الجسد إلى تحليق روحاني، واختراق ومناطحة ما هو مادي ودنيوي «رفع الحجب الكثيفة بين العبد وربه» بقصد تحريض وتثوير القوى الكامنة في النفس.
لكن ماذا بخصوص الجسد الاستعراضي في عصر الإعلان والبهرجة؟
يشير محمود إلى أنّه «الجسد العابر للقارات كسلعة وقيمة الجسد الإعلاني» بوصفه خطاباً لونياً وصوتياً وترويجياً. إنّه جسد صادم إشعاعي لا يُقاوم «يتشكّل الإغراء وتُباع اللذة بالنظر، وتتقلّص ساحة الشعور إذ يتم تركيز النظر والمخيّلة معاً على هذا الجسد».