حسين بن حمزة
يكتب اسكندر حبش قصيدته بطريقة معينة. ويقترح على القارئ أن يحذو حذوه، فيقرأها بالطريقة التي كُتبت بها. لعل هذا هو السبب في جعل القارئ متورطاً منذ البداية بالتجوال في عوالم مجموعته «الذين غادروا» (دار النهضة) وفق إيقاع محدد.
قصائد المجموعة مكتوبة بنفس شعري متمهل. لا ضجة عالية فيها. معجم الطبيعة هو الحاضر الأكبر، حيث تكثر مفردات مثل: ليل، رمل، ثلج، ريح، سماء.... هذه الكثرة ليست دعوة إلى التفكير أوتوماتيكياً في تأويل ذلك على الطريقة البنيوية التي شاعت لفترة في النقد من دون أن تثمر. القصد أن هذا المعجم يسهم في جعل الجملة الشعرية ذاتها متروّية وغير مستعجلة للذهاب إلى هدف أو معنى مباشر. اسكندر حبش يصنع مناخاً للكلمات والصور، ونادراً ما يعتني ببناء كل صورة أو استعارة على حدة. وإذا فعل ذلك فإنه ينجز صوره بالمواد والمكوّنات عينها التي ينجز بها القصيدة ككل. وهذا ما يفسر الطابع الغنائي والشجن الداخلي الذي يجول بكثافة واطمئنان في هذا الشعر. القارئ يستسلم لهذه المقترحات المعطاة بداهةً منذ البداية. وهذا يعني أن عليه تجنُّب مقارنة ما يتصفحه بأي شعر آخر. الواقع أن القارئ لا يبذل جهداً مضنياً في سبيل ذلك، إذ سرعان ما تأخذه قصائد المجموعة إلى مشاغلها وشؤونها الخاصة. ثمة ما يشبه هذا الشعر بالطبع، إلّا أن التجارب الجديدة المكتوبة على هذا النحو تقل بالتدريج. ما يسود اليوم هو الاستعارات القاطعة والنبرات المسننة واللغات التي يصدر عن تجاور الكلمات فيها صوت احتكاك معادن أو خامات صلبة.
صاحب «بورتريه لرجل من معدن» (1989) يتخلى بشكل طوعي عما هو معدني لمصلحة نبرة تُعلي من شأن الوحشة والألم والعزلة والفقدان... إنها موضوعات ومناخات تستحضر نبرة لائقة بها. الغناء والطبيعة والشجن الداخلي هي سمات أساسية لهذه المناخات.
تتوزع المجموعة، وهي السادسة للشاعر، على أربعة أقسام (أو أربعة دواوين صغيرة). لكن القارئ لا يلحظ أنه يغادر عالماً ليدخل عالماً آخر. ربما النبرة تؤدّي دوراً في خلق إيحاء قوي بأن المجموعة هي كتاب واحد.
يصغي الشاعر إلى وحشته الشخصية. الوحشة هي الخيط الوحيد الظاهر في «كبكوبة» الحياة ومتاهتها. في ظل هذه الوحشة يفضِّل أن يعلن رهانه، حيث الخسارة أجمل من الربح: «هذا ما تبقى لك من حياتك/ رمل يغسله مطرٌ تحت شجر/ وبعض الذكريات/ كأن تتذكر هذا الهباء/ الذي أسميته يوماً/ حياتك». البطولة في هذا الشعر ممنوحة للنبرة الآسفة والموحشة التي لا تتيح مساحة كافية لابتكار صور غايتها إدهاش القارئ ومباغتته. نقرأ صوراً مثل: «هكذا انحنوا/ مثل فاكهة/ تقع على الأرض» وكذلك: «طيران عصفور / من قال إن السماء قاحلة»، وغيرها. ولكن هذا النوع من الصور يذوب في النفس الشعري العام، حيث يحق للشاعر أن يقول: «ماذا فعلتُ، إذاً / بكل هذه الكلمات».