خليل صويلح
يحفر سعيد بنكراد في أنساق الثقافة العربية، بحثاً عن آفاق الإفلات من دائرة المعنى الواحد للكلمات والأشياء والحركات والكائنات. ويرى الباحث السيميائي المغربي في «مسالك المعنى» (دار الحوار) أن التمرّد هو الخروج من دائرة الوضوح

اقتحم حقل السيمياء (علم يبحث دلالة الإشارات في الحياة الاجتماعية وأَنظمتها اللغوية) النقدَ الأدبي العربي بقوة خلال العقدين المنصرمين، وكانت ترجمات نصوص رولان بارت وأمبرتو إيكو مدخلاً الى دراسات تطبيقية، وجدت في «العلامة» و»الإشارة» مفاتيح رحبة لتفكيك النص الأدبي، من وجهة نظر دلالية صرفة. لكنّ علم السيمياء، لم يقف عند حدود النص الأدبي، بل تعدّاه إلى حقول أخرى، في مقدّمها الهوية البصرية التي فرضت حضورها كبصمة جديدة للعصر. الناقد المغربي سعيد بنكراد أسّس أبحاثه واهتماماته في قراءة العالم دلالياً، سواء في نصوصه النقدية أم عبر مجلته «علامات» التي فتحت أبوابها لتأصيل نقد سيميائي عربي.
وفي كتابه الجديد «مسالك المعنى» («دار الحوار» ــ اللاذقية)، يواصل بنكراد الحفر في أنساق الثقافة العربية، عبر دراسات تطبيقية تسعى إلى تجسيد حالة دلالية تطيح بالأفق الواحد في قراءة النص. وتدفعها رغبة أصيلة في التحرّر من الذاكرة الراسخة في الكلمات والأشياء والحركات والكائنات، للخروج من دائرة المعنى الواحد ومن سطوة السلطة بكل تجلياتها. هذه السلطة التي تعمل بلا هوادة على إعادة الكائن البشري إلى «أنساق أصلية» تنصهر داخلها أنواع السلوك وردود الأفعال باسم المقدس والتابو. فالخروج من دائرة «الواضح» و «المحدد سلفاً» هو خروج عن طوع السلطة وتهديد لأمنها. لذلك، فهي تحتمي بالمباشر وبمسار خطي مستقيم يجمع أجزاء الخطاب ضمن تناظر دلالي واحد تنبثق منه «الحقيقة الصافية» ووحدانيتها في الوجود. هكذا، فالرمز هو وحده القادر على بعث الدلالات من رمادها.
أما الواقعي فهو لحظي ونفعي ومباشر. تحتمي السلطة بلون واحد كرمز لها، «هوية بصرية» تتحكم بخيارات الفرد، فتعدد الألوان منافٍ لوحدانية الإحالة والاتجاه والغاية. والأمر ذاته بخصوص منطق الشكل، فالأشكال هي في المقام الأول فضاءات هندسية مقتطعة من كون لا حدّ له: «الزوايا الحادة والسواري المنتصبة في إباء، والمباني الضخمة والواجهات المتجهمة هي الأشكال التي من خلالها تحضر السلطة في المعيش اليومي. المحاكم ومخافر الشرطة وقصور البلديات ومقرات الوزارات والبرلمان هي المعادل الرمزي «الشكلي» لواجهات السلطة وأشكال حضورها في الحياة اليومية». ويوضح صاحب «سيميائيات الصورة» أنّ هذه الأشكال المعمارية الصارمة، هي الوجه البشع المستفز الذي يذكّر بجبروت السلطة. تحضر هذه المباني أمام العين باعتبارها أشكالاً بلا روح، تخبئ في تفاصيلها القسوة والكراهية، ما يقلّص حجم الكائن الإنساني أمامها ويزداد شعوره بالرهبة والانسحاق.
في هذا السياق الدلالي، يقرأ بنكراد «حرب الخليج» بوصفها نصاً سردياً قابلاً للتأويل، عبر بناء نص سردي يستند إلى وجود قصة يمكن أن تُروى من موقع مضاد، يخلخل منطوق السرد الانسيابي تمهيداً لإحداث شروخ فيه. وهكذا، فإنجاز الفعل العسكري (إعلان الحرب)، ليس كذلك إلا في حدود إحالته على غاية مثلى هي «توحيد العالم» ضمن سقف قيمي واحد يلغي كل القيم الأخرى. ولا يمكن أن يتحقق ذلك إلا من خلال بناء قصة تمثّل أميركا صوتها السردي الأوحد الذي يحكي، من موقع المشارك في الفعل، أحداثاً تُنجز بـ «المباشر».
وفي منظور دلالي آخر، يحلّل بنكراد لعبة «كرة القدم» ويربط متعة اللعب بـ»الاستراتيجية الحربية» و»الاستيهام الجنسي». فلعبة كرة القدم حالة ثقافية فريدة تنوس بين استراتيجية الحرب وإحالاتها المتعددة على «العدوانية» و»الاقتتال» و»النصر» أو «الهزيمة»، كما تحيل إلى عوالم الأنوثة والذكورة بدلالتهما الجنسية. أما في ما يتعلق بالارتواء أو حالات الكبت، فالأمر يحدّده «الهدف» أي الارتقاء الانفعالي التصاعدي من حالة بدئية تمثل حالات المراودة والتنقل في «جغرافية الملعب» تمهيداً للوصول إلى أقصى حالات الانتشاء من طريق إحراز الهدف. هذا ما يفسّر الطابع الذكوري للعبة، باستثناء «الكرة» التي هي وحدها «مؤنثة». مبدأ الرجولة إذاً هو الرابط بين الاستراتيجية الحربية والاستيهام الجنسي. ذلك أن الجنس في المتخيل الذكوري معركة وكلّ أداة هي إحالة على الفحولة.
ويرصد بنكراد في فصل آخر استراتيجية مختلفة في سلطة السرد. تتمثل هذه الاستراتيجية في ظاهرة الداعية الإسلامي عمرو خالد الذي يعتمد أسلوباً منبثقاً من استراتيجية خاصة في الإبلاغ بمفهومه الدعوي. الخطاب الديني هنا ليس خطاباً قيمياً يبني عوالمه استناداً إلى مفاهيم مجرّدة تدعو إلى هذا الفعل وتُنهي عن ذاك، بل يبلورها السارد بمساعدة المتلقي في نهاية كل جلسة. وتستمد استراتيجية عمرو خالد “صدقيتها” من السرد التاريخي، لكي تسرّب عبره «حقائق جديدة» هي في واقع الأمر مجموعة من الأحكام الايديولوجية والتصورات الخاصة بالهوية والزمن والسلف والخلق والامتداد والعودة والأصل الثابت. أي كل ما يقود إلى رهن الحاضر بالماضي ورهن الحياة الفعلية بعوالم أخرى شبيهة بحياتنا، لكنها موجودة خارج الزمن الإنساني. وتقوم الشحنة الدرامية للسرد على مجموعة من الإيماءات (حركات الرأس والعينين واليدين)، لخلق حالة تراكب بين «سرد أصلي» و «سرد تعليقي». هكذا، فإن الانتماء الأول يحدّد «الهوية» في بعدها الحضاري، ويدرجها الثاني ضمن عوالم المتخيل... فتكتسب أبعادها الرمزية. من هذه الكوة الضيقة (كوة السرد التخييلي الذي يرفضه المؤرخ)، يتسلل عمرو خالد إلى القصة التاريخية ليحولها أداةً لمضمون هو شيء آخر، غير دروس الدهر أو عبرة التاريخ. إنه كما يقول بنكراد مضمون لهوية تتطور خارج التاريخ وضد قوانينه، في نبرة تبشيرية، تعلن بصراحة: «استقالة مطلقة للعقل والتفكير والوجدان الخلّاق». هكذا فرحلة الترميز ظلت تتعامل مع المعنى باعتباره كياناً هارباً باستمرار من حالات التعيين المباشر.