ياسين عدنان

أعادت البطاقات البريدية التي انتشرت أخيراً في سوق المغرب، إلى بؤرة الضوء، ملصقات استشراقية شغلت الناس قبل قرن مضى... هل حقاً كانت فرنسا بريئة يوم دعت فنانيها إلى «اكتشاف سحر الشرق»؟

هل الملصق الإعلاني عملٌ فنّي أم مجرّد وسيلة ترويج لمنتج استهلاكي عابر؟ وماذا لو تقادم عليه الزمن: هل يُكسبه هذا العنصر قيمة مضافة تجعله جديراً بالتأمل؟ أم ارتباطه بمجال الاستهلاك يجعله «مُحتقراً» من نقّاد الفن وعُشاقه؟ ثم ماذا إذا كانت هذه الأعمال تروّج أيضاً لصورة معينة عن بلد ما، كما هي الحال بالنسبة إلى الملصقات الاستشراقية التي انتشرت أخيراً في أسواق المغرب ومدنه السياحية، بعدما نُفض الغبار عنها، وطُبعت على شكل بطاقات
بريدية؟
تكمن أهمية هذه الملصقات الموقّعة من فنانين فرنسيين كبار أقاموا في المغرب العربي، في كونها تكرّس وجهة نظر معينة تجاه الشرق وبلدان المغرب العربي، ما جعلها تتجاوز هدف الترويج لمنتج ما، إلى الكشف عن فكر استشراقي يستدعي منّا أكثر من وقفة، وأكثر من سؤال.
يعود أول ملصق إعلاني ذات طابع استشراقي في منطقة المغرب العربي إلى عام 1891، حينما بدأت شركة النقل البحري التابعة لمجموعة «ب.ل.م.» (باريس/ليون/مارسيليا) بقطع البحر الأبيض المتوسط صوب المغرب والجزائر وتونس، قبل أن تلحق بها شركات أخرى. وبسبب احتدام المنافسة، لجأت شركات النقل البحري والسِّككي إلى تكثيف حملاتها الدعائية عبر صناعة الملصقات: أوراقٌ كبيرة مزيّنة بالرسوم، ومعلّقة على جدران وكالات السفر ومحطات القطار وأسوار الموانئ وداخل مقارّ النقابات السياحية... ولأن هذه الملصقات كانت تُطبع بأعداد محدودة، فإن نسخاً قليلة جداً منها، كتب لها النجاة من الاندثار. ويعتبر الملصقان اللذان وضعهما الفنان هوغو داليزي لمصلحة مجموعة «ب.ل.م.» والشركة العامة العابرة للمحيطات عام 1891، أول ملصقين إعلانيين حاولا الترويج لهاتين الشركتين، وللسياحة في شمال إفريقيا التي عرفت انتعاشاً ملحوظاً في تلك الفترة. وعليه، كان من الضروري تكثيف الحملات الإشهارية لدعم هذا القطاع الذي كان في بداياته، وحتى عشية الحرب العالمية الثانية، سياحةً شتويةً تستقطب الكثير من الفرنسيين.
ولهذا الغرض، أنشأت الحكومة الفرنسية وكالةً للسفر، أُطلق عليها اسم اللجنة الشتوية، في عام 1897، وأُدرج ضمن أبرز أهدافها التعريف بـ«فرنسا الأخرى»، أو «فرنسا جنوب المتوسط». هكذا شاركت هذه اللجنة عام 1913 في مؤتمر باريس للولايات العامة للسياحة. وهناك أُعلنت بشكل رسمي سياسة فرنسا ضمن هذا الإطار: «نريد أن نقلّص يومياً المسافات التي تفصلنا عن محافظاتنا المتوسطية. وسوف نجتهد مراهنين بشكل خاص على السفن والطرق والسكك الحديدية، لكي نمدّ فرنسا بهذه الفوائد التي نريد الفوز بها، لأجل الوطن الأم».
إذاً، الأهداف الاستعمارية كانت واضحة عند السياسيين ومنشطّي السياحة وشركات النقل، لكن هل كانت غائبة عن وعي الفنانين الذين انخرطوا بحماسة في رسم الملصقات؟ طبعاً، سيكون من الصعب علينا اتهام جاك ماجوريل، وإتيان ديني، وماكس بونتي ــــــ مصمم شعار سجائر «جيتان» ــــــ وهنري دلفال، وهوغو داليزي، وغيرهم من الفنانين المتميزين الذين عشقوا المغرب وأحبوه، بأنهم كانوا يعملون مباشرة لمصلحة المؤسسة الاستعمارية. لكن المؤكد أن الملصقات الإعلانية التي رسموها آنذاك، قد خدمت، ولو بشكل غير مباشر، أهداف المستعمر وروّجت لخطابه. تلك الملصقات الإعلانية التي هدفت إلى بيع «أسفار إلى الشرق»، كانت تخفي من المقاصد أكثر مما تعلن. وفي هذا السياق، يقول الكاتب المغربي عبد الجليل الحجمري: «إن الباخرة التي تغادر الشواطئ الفرنسية قاصدةً السواحل المغربية، والقطار الذي ينهب السكة، والطائرة التي تُقلع في اتجاه المغرب، هي عناوين الاستعمار الغالب في عنفه العدواني، وليست مجرد وسائل لنقل مسافرين يحركهم الشوق إلى اكتشاف الشرق. إن معظم هذه الملصقات تصور لنا تلك الأشياء المنتمية إلى حداثة صارخة جنباً إلى جنب، دائماً، مع أحد الأهالي، قائلة لنا إن هنا عالمين يراقبان بعضهما في احتراز وريبة. وتترجم لنا الجهود المبذولة لإخفاء هذه المواجهة الصامتة. أيضاً، يُراد لهذه الملصقات على وجه الخصوص أن تُقنِعنا بأن «البلد الأصلي» (فرنسا) و«المستعمرة» (المغرب أو الجزائر أو تونس) يعيشان في توازن منسجم واتحاد تام».
وإذا كانت الخلفية الاستعمارية حاضرة، فإن هناك أيضاً روحاً استشراقية لا يخطئها وجدان مُتلقِّي هذه الرسوم. هذه الملصقات أسهمت في ترسيخ فكرة الشرق الساحر حيث يمتزج الخيال بالغرائبية. العديد من شخصيات الشرق النمطية المستوحاة خصوصاً من عالم ألف ليلة وليلة، صارت تشكل خلفية الدعاية للشاي والبن والصابون والسجائر وغيرها من المنتجات التي شرعت شركة «باكي» الفرنسية في نقلها إلى المغرب ابتداءً من عام 1870 عبر أسطولها. وهذا الأسطول يعود إلى مرسيليا محملاً بالجلود والصوف والزيت. ولقد أصدرت هذه الشركة وحدها ثلث الملصقات الاستشراقية في المغرب، بينها ملصق صابون «بالموليف» (Palmolive). وفيه، تظهر جارية مدللة وهي تتأهب للاستحمام، فيما تجثو تحت قدميها أَمَة سوداء تستعد لخدمتها. رسمٌ لفنان فرنسي مغمور لا يختلف كثيراً عن تلك الرسوم الاستشراقية التي استلهمت أسطورة الحريم الشرقي. وإذا كانت الملصقات الإعلانية الأولى لشركة «باكي» قد تضمنت نصوصاً طويلة، فإنها مع مرور الوقت بدأت تركز على الجانب الفني والإيحاء. وبلغ الملصق الاستشراقي أوْجَه في المغرب مع شركات الطيران... فبعدما أقيمت الشركة العامة للطيران عام 1919، غزت ملصقات الدعاية الخاصة بشركات الطيران تغزو الأسواق، كما أبدع الفنانون أجمل الملصقات التي يطالب الكثيرون اليوم باعتمادها تحفاً فنية، وإعادة الاعتبار لها كجزء من ذاكرتنا البصرية التي يجب أن نتصالح معها.