بشير مفتي
كثيرة هي الدراسات التي تناولت الرواية الجزائرية في العشرية السوداء، لكنّ أغلبها نحا إلى البنية الشكلية والدراسة الداخلية، أو فضّل تناول الموضوعات الرئيسة أي العنف والحرب والفتنة. وقليلة هي تلك التي حاولت الجمع بين المحورين السابقين. كتاب الباحثة آمنة بلعلا «المتخيّل في الرواية الجزائرية: من المتماثل إلى المختلف» («منشورات الأمل» ــــ الجزائر)، يركّز على حقبة من التسعينيات حتى نهاية الألفية، لكن من زاوية التخيّل السردي وعلاقته بالواقع والكتابة.
في مدخل البحث، تقدّم آمنة بلعلا المفاهيم النظرية الإجرائية حول الخيال والتخيّل والمتخيّل الروائي لتبدأ من أول رواية جزائرية كُتبت في التاريخ، وهي «الحمار الذهبي» لأبوليوس، فتدرس المظاهر الشفهية من خلال بنيتها الحكائية الخرافية. بعدها، تعرّج على مرجعيات المتخيّل في رواية السبعينيات، قبل أن تصل إلى ما تسميه سرد المحنة، حيث تركّز على أنواع الخطاب الروائي الجزائري في العشرية السوداء التي تتميّز ــــ رغم وحدة الموضوع ــــ على مستوى الأشكال السردية. وتعزو الباحثة ذلك التحول، إلى تحوّل أكبر في البنية الاجتماعية والسياسية: «إن تحوّل القيم الجمالية في الرواية الجزائرية، استجابةٌ للتحوّلات التي عاشها المجتمع الجزائري خلال الثمانينيات، وما نتج منها من إعادة نظر في تطبيقات الإيديولوجيات السبعينية وما تبعه من اهتزاز القيم... كان نتيجتها ذلك الشرخ الذي حدث في أكتوبر 1988». تدرس الباحثة في هذا المضمار رواية الحبيب السائح «ذاك الحنين»، ورواية عبد المالك مرتاض «مرايا متشظّية» مركّزةً على عناصر جمالية متوافرة في هذه الأعمال... كالحوارية التي أشار اليها باختين، أو تركيب التهجين والباروديا الساخرة، وخصوصاً الأسلبة التي لاحظت الباحثة أنّها تقوم على «تغيير الصيغة أو التقليص والتمطيط والإيحاء».
ثم تنتقل بلعلا إلى ما تسمّيه تجليات الصناعة الظرفية للمتخيّل، حيث تدرس الروايات التي يقل فيها التخييل وتكثر فيها التسجيلية المباشرة. هكذا، تعالج بعض الأعمال مثل «فتاوى زمن الموت» لإبراهيم سعدي، و«الورم» لمحمد ساري، و«متاهات ليل الفتنة» أحميدة العياشي، و«دم الغزال» لمرزاق بقطاش. ثم تنتقد هذه الأعمال على اعتبار أنّ العمل الروائي ضد التسجيلية بمعنى التسجيل الحرفي. لكنّ الباحثة تتناسى أن الرواية التي عملت على تحليلها، لم تكن تسجيلية بالمعنى السلبي للتسجيلية. إذ إنّ رواية «متاهات» تتكوّن من مستويات لغوية عدة بما فيها لغة البرقيات الصحافية، ولا نعلم إن كانت الباحثة اطّلعت على تجربة أميركية مهمة وظّفت هذه التقنية للتأريخ روائياً لمسيرة الولايات المتحدة هي رواية «دوس باسوس». إذن، هناك فرق بين تسجيل ينمّ عن ضعف في القدرات الجمالية، وآخر يهدف إلى فتح الرواية على التأريخ اليومي العابر. كما أنّ الباحثة قد تكون غير مطّلعة على رواية الكاتب الأولى «ذاكرة الجنون والانتحار» التي كانت بداية التحوّل الروائي الجزائري من الناحية الفنية والجمالية.
تنتقل بلعلا إلى دراسة «الميتا ــــ سرد» (ما وراء السرد) في الرواية الجزائرية تحت عنوان هو «صراعات المتخيّل» مستحضرةً ثلاثة نماذج أساسية هي «ذاكرة الجسد» لأحلام مستغانمي، «سيدة المقام» لواسيني الأعرج و«أرخبيل الذباب» لكاتب هذه السطور... تطرح صاحبة «المتخيّل في الرواية الجزائرية» علاقة الكتابة بالكتابة داخل النص السردي، وحضور الكاتب كشخصية محورية، وتجليات التداخل بين الوهم والحقيقة، ولعبة الرواية داخل الرواية. ثم تنتقل إلى دراسة المشروع الروائي للحبيب السائح الذي يقوم على كتابة التناص مع التراث، كتابة تحتفي بالصحراء وتمثّل تمايزها عن باقي الروايات الجزائرية.
وعلى رغم أهمية كتاب آمنة بلعلا، فهو لا يعكس فعلاً ما يحدث اليوم في الرواية الجزائرية الجديدة. لكنه يفتح أفقاً لمقاربات ونقاشات وأسئلة ستتناسل يوماً بعد آخر ما دام هناك إنتاج روائي يجد طريقه إلى النشر.