حسين بن حمزة
بعد غياب دام ربع قرن، يسترجع خالد المعالي أمكنته الأولى في البادية العراقيّة. ها هو الراعي الصغير الذي صار شاعراً، يطارد أطياف الماضي. نصوص لافتة عن رحلة الاغتراب والبلد الجريح وأصدقائه وخصومه، جمعها في ما يشبه السيرة. «جمعة يعود إلى بلاده» (دار الجمل)

في كتابه «جمعة يعود إلى بلاده»، يروي الشاعر العراقي خالد المعالي أجزاء وشذرات من سيرته الشخصية. اسم «جمعة» هو مجرد قناع للابتعاد عن ضمير المتكلم، وجعل الكلام عن معالم السيرة ووقائعها يتوالى على مسافة (وهمية بالطبع) من الكاتب نفسه.
فصول الكتاب تُظهر أن المعالي لم يكن ينوي كتابة سيرة ذاتية. إنها فصول كُتبت في أوقات متفرقة ومتباعدة. وهذا ما يلاحظه القارئ بسهولة. فهو لا ينتقل بين الصفحات بوصفها مادةً تخضع لتعاقب زمني، بل يتلقى السيرة بجرعات متفاوتة، ووفق ترتيب عشوائي. إضافة إلى أن بعض الصفحات لا تستقيم مع شكل السيرة وتحتوي على وجهة نظر المؤلف إزاء قضايا متعددة، منها ما يتعلق بالنشر (فهو صاحب «دار الجمل»)، ومنها ما يتعلق بعلاقات المثقفين.
الكتاب ليس سيرة كـــــاملة، ولا سيرة شخصية بالمعــــــنى الضيق، والدارج، للتعــــــــــبير. فالمـؤلف يبدأ من لحظـــــــــــة استعــــادة طـــــــــــــفـــــــولته ونـــــــشأتــــــــــه في بادية «السماوة» جـــــــــنوب العراق، لكـنه لا يلبث أن يقفز إلى وقائع وتفـــــــــــــصيلات أخرى، من دون أن يراعي الترتيـــــــب الزمـــــــــني ولا المفهوم المـــــــــتداول للســـــــــيرة. ويكرر وقــــــــائــــــــع محددة في أكثر من مكان في الكتاب، كما هي الحال في حديثه عن رعــــــــيه للأغــــــــــــنام في طفـــــــــــولته، أو عن تعــــــــــلّقه بالكتب وحلمه بأن يصبح شاعــــــــــراً، أو مغادرته للعراق وخط رحلته إلى ألمانيا، مروراً بــــــــــبيروت وفـــــــــــــرنسا، ثم ضــــــــياعه وتشــــــــرّده في فرنـــــــــسا إلى حد اضـــــــــــــطراره إلى التسوّل والحصـــــــــول على قوته من نفايات المطاعم.
الكتاب، بهذا المعنى، ليس سيرة كاملة. الأرجح أن النواة أو النكهة الشخصية لمعظم صفحاته هي التي جعلت فكرة جمعها في كتاب أمراً ممكناً ومغرياً، للمؤلف أولاً، وللقارئ لاحقاً.
يبدأ خالد المعالي من لحظة بلوغه الخمسين. ومنها يكرّ نحو الماضي، الماضي الشخصي وماضي العراق الثقافي والسياسي. القارئ يتلقى فكرة العودة كطعم. لكن المؤلف سرعان ما يكشف عن موضوعات وأساليب مختلفة لإقناع القارئ بالمتابعة والمضيّ معه في رحلة السرد.
يـــــبدأ المعـــــــالي، كما ســـــــــبق، من بـــــــيئة المنشأ الفقيرة والقاسية، وصــــولاً إلى الكتب التي أخذت تصنع له عالماً خاصاً، يعــــــزله عن الــــــــعائلة ويجعله غريب الأطوار في المجتمع الريفي الصغير. يقرأ بودلير وكافــــــافي ودو بوفوار، ويحـــــلم أن يكون شـــــــاعـــــراً.
يفكر في كتابة رواية تتألف من مونولوج طويل لبطلها الوحيد. يذهب إلى المدينة القريبة فلا يلقى أدنى ترحاب من المثقفين والشعراء، ويُعامـــــــل كقروي متّسخ. ثم يكتب قصائد «لا ينشرها أحد في العراق، لا تـــــــــتلاءم مع المرحلة الراهنة، هكذا كـــــــانوا يقولون».
في عام 1979 يتدبر المعالي تأشيرة دخول إلى فرنسا، باعتباره طالباً حصل على قبول من معهد للّغات في مدينة تور. إلى بيروت أولاً، ثم تور فـ... كولونيا المدينة الألمانيّة التي استقرّ فيها، مؤسساً «دار الجمل».
بدأ بمنشورات تطبع على الدكتيلو وتوزع باليد. لا بدّ من أن الكثيرين من الكتّاب والشعراء العرب يتذكرون تلك المنشورات المطبوعة بتقنيات بدائية وبسيطة، التي كانت تصل إليهم بقوة الأمل فقط. وكانت بينها مجموعتان لخالد المعالي نفسه، وهما «صحراء منتصف الليل» (1985) و«في رثاء حنجرة» (1987).
تلك المغامرة انقلبت إلى دار نشر حقيقيّة، هي «دار الجمل» كما نعرفها اليوم... حتى إن المعالي بات يحمل صفة الناشر بموازاة صفته الأصليّة كشاعر. وهو لم يكتفِ بنشر الكتب، بل أصدر عن الدار نفسها مجلة «فراديس» (1990 – 1993) بالاشتراك مع زميله اللدود عبد القادر الجنابي، الشاعر العراقي السريالي المقيم في باريس، ثم «عيون» المستمرة في الصدور منذ عام 1995.
يفرد المعالي مساحة واسعة ليومياته عن الحرب الأخيرة على العراق، متحدثاً عن بصيص أمل راح يراود آلاف المنفيين في إمكانية عودتهم إلى بلدهم بعد سقوط صدام حسين.
يهاجم بعض المثقفين الذين قطعوا على العراقيين فرحتهم بسقوط صدام. بعد يوميات الحرب، تأتي يوميات العودة. العودة بعد ربع قرن من الغياب، إلى مسقط رأسه وأمكنته الأولى. يعاين المؤلف كل ما تركه وراءه وهاجر. يتفحّص وجوه الأهل والأقارب والبيوت والدروب والحقول. يستعيد أصوات الطبيعة والحـيوانات. يكتب عن أحد أترابه من الرعاة في القرية، وعـن خطيبته الأولى، وعن زيارة مشتركة قام بها عام 1974 مع الشاعر كمال سبتي إلى البصرة حـــــــيث التقطا صورة قرب تمثال السيّاب.
يتوزع الكتاب بين الطفولة والبدايات المبكرة للكتابة في العراق، وبين عوالم ثقافية متعددة ينخرط فيها المؤلف شاعراً وناشراً ومهتماً بالشأن الثقافي. وهذا ما يسمح للمعالي بإدخال صفحات تشكل جزءاً من سيرته المهنية والثقافية. فيكتب نقداً للصفحات الثقافية والرقابة العربية. ويفرد مساحة لرثاء الشاعرين عقيل علي وكمال سبتي. ثم يكتب رسائل مؤثرة إلى فاضل العزاوي وسركون بولص وسمير نقاش. يهاجم عدداً من الكتّاب العراقيين من دون تسميتهم، مركّزاً على صديق كان يحذره من رضاعة «الناقة السعودية» وانتهى محرراً في جريدة سعودية... و«لم يكتفِ بالرضاعة من تلك الناقة إنما يحلبها ليل نهار وبيديه الاثنتين».
لا يكتب خالد المعالي سيرة عادية. إنها تصفية حسابات مع خصوم وأصدقاء صاروا خصوماً. على القارئ أن ينتظر ردوداً. أليس كذلك؟