خليل صويلح
تنطوي أعمال زكريا تامر القصصية على خصوصية استثنائية في السرد. فهو شاعر القصة العربية بلا منازع، لكن شعرية صاحب «دمشق الحرائق» تذهب بعيداً في استجلاء المأساة الشرقية بأقصى حالات الكشف والفضح والتعرية. إذ يمزج القاصّ السوري ببراعة بين الحسّ المأساوي والبعد الأسطوري للحدث الواحد. وعلى رغم أنّ هذه التجربة حفرت عميقاً في الذائقة العربية، إلا أنّها ظلت بعيدة عن مرمى النقد. ويرى مفيد نجم في كتابه «الربيع الأسود: دراسة في عالم زكريا تامر القصصي» (وزارة الثقافة ــ دمشق) أنّ السبب في عدم مقاربة أدب زكريا تامر نقدياً يكمن في صعوبة تأطير التجربة وإدراجها في سياق مذهب أدبي محدد. وقد بدا ذلك واضحاً في تعدد المصطلحات المركّبة التي أُطلقت عليها مثل «الواقعية التعبيرية» و«القصة التعبيرية» ومسميات أخرى.
ويشير الناقد السوري إلى أنّ القيمة الإبداعية التي انطوت عليها تجربة زكريا تامر تتمثل في سعيها إلى الإفادة من المنجز الحكائي العربي القديم، وخصوصاً السرد الحكائي الشعبي، في الوقت الذي كانت تنفتح فيه على منجز الحداثة، سواء لجهة شعرية اللغة أو لجهة التقنيات المستخدمة في السرد، وقبل ذلك تخفّفها من هيمنة المرجعيات الإيديولوجية. إن هذا الافتراق ــــ كما يشير مفيد نجم ــــ هو الذي أسّس «اللحظة التامرية» في القصة العربية. مجموعته القصصية الأولى «صهيل الجواد الأبيض» (1960) كانت مرآة للأفكار الوجودية. إذ يواجه أبطالها مأساة شرطهم الإنساني والاجتماعي بإحساس مريع، يعبّرون عنه بأقصى حالات الغربة والضياع والعبث والهزيمة. وتتجلى مستويات التجربة الوجودية في العلاقة الحادة مع الزمن وسيطرة فكرة الموت والعدم على أبطاله في صراع مأساوي مع العالم.
إن معظم قصص صاحب «تكسير ركب» (2002)، تنهض على عنصر المفارقة والغرابة. إذ يؤلف في بناء الجملة بين معنيين متناقضين وهو ما يُحدث صدمة لدى القارئ ويخلق شعوراً بالغرابة والإثارة. يلفت مفيد نجم إلى أنّ الفضاء المكاني في قصص زكريا تامر يتّسم بأنه مكان معادٍ، تبدو علاقة الشخصيات به علاقة قدرية يصعب الفكاك منها. ولذلك تغيب عن هذه العلاقة قيم الألفة والطمأنينة، ليحل مكانها شعور بالغربة والخوف والعجز، ما يجعل هذه العلاقة تتّصف دوماً بالتوتر والقلق. لكن ما هي التحولات التي طرأت على تجربة زكريا تامر؟ يجد مفيد نجم أنّ اللغة التي أخذت الطابع المجازي الاستعاري في بدايات تامر، تحوّلت في أعماله اللاحقة إلى لغة عنيفة وخشنة وحسية، ما يؤكد كابوسية عالمه السردي وتخلّيه عن النكهة المحلية وفضاء الحارة الشعبية، لمصلحة فضاء مكاني طليق وأفقي. وإنّ الراوي لم يعد يمهّد للحكاية، بل يقدّمها مباشرة باقتصاد لغوي واضح، فيما تتوغل الشخصيات في التشيّؤ والاستلاب الكلي، وهي لم تعد تحاول أن تجابه الواقع، بل صارت تسعى للتماهي به. ويشير الناقد أخيراً إلى أنّ هذه التبدلات التي طرأت على عناصر السرد ومكوناته تتوافق مع استخدامه تقنية «عين الطائر»، ما يتيح تقديم رؤية بانورامية واسعة وكثيفة يتفرّد بها الراوي وحده.