strong> رلى راشد
  • جورج زورابيتشفيلّي يرقد بسلام في «رواية روسية»

    ذهب الكاتب الفرنسي إلى أقاصي روسيا بحثاً عن بطله. كان عليه أن يتخفف من عبء تلك الحكاية المكبوتة التي «ورثها» عن أمّه... روايته الجديدة إعادة اعتبار إلى الجدّ «الخائن» الذي أسقط من كتاب التاريخ

    أخيراً، نُزع الشمع الأحمر عن ذاكرة جورج زورابيتشفيلّي وصار بوسع الرجل أن يرقد بسلام. توارى زورابيتشفيلّي، والد أمينة سرّ الأكاديمية الفرنسية هيلين كارير دانكوس، قبل عقود، كأنه لم يكن يوماً. لكن هامته بقيت تطالب بكسر ذلك «النسيان القسري». كان لا بدّ من أن تخرج حكايته الى العلن، كي ينعم أخيراً بطمأنينة الموت. وبعد كثير من الألم والتخفّي والكتمان، ها هو حفيده الروائي إيمانويل كارير ينفّذ تلك المهمّة الشاقة.
    استعاد كارير الحائز جائزة FEMINA الأدبية في 1995 عن «رحلة شتائيّة»، قدر جدّه الشائك والمتشعّب في كتابه «رواية روسيّة» الذي صدر حديثاً عن دار POL الفرنسية. قرّر الكاتب التمرّد عل وصية والدته وفضح سرّ العائلة، ليسرد حكاية جدّه ابن الصقيع الجورجيّ الذي شُغف بالفلسفة ودرسها (مثل نابوكوف) في برلين، ثم عمل سائق أجرة في باريس قبل أن «يتعامل» مع النازيين مترجماً، لتتم تصفيته جسديّاً لدى تحرير باريس، منتصف أربعينيات القرن المنصرم.
    خيّم «سرّ العائلة» هذا مثل الطيف على سلالة جورج زورابيتشفيلّي، على ولديه وأحفاده الخمسة الذين ستصلهم تفاصيل مُشتّتة وشذرات عن «خائن» أنهى مقاومون فرنسيّون حياته، وواروا جثمانه في مكان مجهول. هيلين، والدة إيمانويل، أحاطت بالكتمان سيرة أبيها، صاحب الفكر المتّقد الذي عاش دَخيلاً على المجتمع، محاولاً أن يتحرّر من أساه الوجوديّ عبر تمارين كتابيّة يائسة. لاذت هيلين بدورها بالكتابة، اختارت أن تكون مؤرّخة، لتحاول أيضاً الالتفاف على ميراث ثقيل لم تختره. لكنّها لم تكتف بالتكتّم على تاريخها الشخصي، بل فرضت خيارها على عائلتها، وطلبت من ابنها الروائي والسينمائي إيمانويل كارير أن يحفظ السرّ. حكاية مكبوتة ستصله أصداؤها عن طريق خاله نيكولا... ليعيش تحت وطأة رغبة ملحّة في اباحة السر للتطهّر منه، خصوصاً بعد انتحار ابن خاله قبل عام.
    وإيمانويل كارير ليس بعيداً عن تقنيّة المكاشفة والفضح. إنّه سليل جيل روائي فرنسيّ جمع بين النجاح التجاري والتهليل النقدي. وأعطى لأعماله بعداً آخر من خلال الفنّ السابع، إذ نقل مثلاً روايته «الشاربان» (1986) بنفسه إلى السينما. وقد بلغ كارير الضفّة الأخرى للأطلسي، من خلال ترجمة أعماله إلى الانكليزيّة، واحتفى به الروائي الأميركي جون ابدايك في «ذي نيويوركر» قائلاً: «إنّنا أمام أديب ذي لغة متميّزة».
    في أعماله التخييلية والسرديّة، رصد كارير الفظاعة والجنون والفراغ المُتجسّدة في صورة مرضى عقليين، أو أسوياء، يصفقون الباب وراءهم فجأةً ليَصلوا الى تخوم الهذيان. هكذا نقل في «بعيد المنال» (1988) يوميّات امرأة تصل الى شفير الهاوية بعدما تملّكها شغف القمار. ورصد في «رحلة شتائيّة» القلق الذي يحاصر فتى في التاسعة وحده في مهبّ المخاوف وحكايات الرعب. واستعاد أيضاً في «العدو» (2000) قصة جان ـــ كلود رومان، الرجل الذي أقنع الجميع طويلاً بأنه طبيب وباحث في «منظّمة الصحة العالمية» قبل أن يقتل زوجته وأولاده وأهله، وقد أدّى
    دانييل أوتوي دوره في السينما، تحت إدارة نيكول غارسيا.
    بدورها تدور «رواية روسيّة» حول عقدة ذنب. تصوّر آليات كره الذات، وترصد تلك الكآبة التي تلاحق ضحاياها، وتتشكّل مثل الدمية الروسيّة، من مجموعة دمى مُتداخلة الواحدة في الأخرى. الكتاب «مناهض» للماضي ومُشرّع على المستقبل، بل يشكّل مَخرج طوارئ ينتشل صاحبه من الواقع. كان بوسع كارير أن يسمّي عمله الاوتوبيوغرافي المتخيّل «الجريمة والعقاب»، لكنّه اختار عنواناً يختصر رحلته التطهيريّة من الماضي، رحلة استمرت سنتين قضاهما بين مثلّث باريس وجزيرة ري الفرنسيّة وجبال الأورال في روسيّا.
    يطلّ الكاتب على الماضي من خلال نوافذ قصصيّة تكوّن مجتمعةً أُحجية إيمانويل كارير الرجل المُتعدّد. علماً أنّ تقاطع الهوّيات ليس سوى تعبير عن لعبة الحقيقة. إيمانويل الأول عاشقٌ يرغب في تعزيز علاقته بامرأة حياته، فينشر في أعمدة صحيفة «لوموند» الفرنسية قصّة إيروتيكية يهديها لحبيبته، لكن الخطوة تسمّم علاقتهما. إيمانويل الثاني كاتبٌ يريد تخطي رواياته السوداء المُغرقة في الهذيان عبر تقرير يكتبه عن هنغاري وُجد بعد 56 سنة على اختفائه في مصحّ عقلي في كوتلنيتش، تلك القرية التي قصدها كارير في أقاصي روسيا. هناك، سيعثر الروائي على الرجل الهنغاري والوحدة والجريمة، لكنّه سيكتشف أيضاً سرّه العائليّ والمآسي الملازمة له. هكذا سيصبح بإمكانه أخيراً أن يهدي إلى جدّه شاهداً لقبره، وسيمنح نفسه حقّ الوجود من خلال جان ابنته من هيلين، المرأة التي يلتقيها قبل بلوغه السادسة والأربعين، سنّ رحيل جدّه.
    تفضح «رواية روسيّة» الجنون والشغف الجسدي وسوداويّة الروح. وتصل فيها اللغة الروسية الى مصاف الرمز، تأكيداً على مقاربة حنّة أردنت، إذ تعتبر اللغة الأمّ «الشيء الوحيد الذي يبقى في النهاية». في الصفحات الأخيرة، كتب كارير رسالة حبّ الى والدته، لتبدو لنا «رواية روسيّة» تنويعاً مُعاصراً على رسالة كافكا إلى والده. ولن نُبالغ إذا اعتبرناها تجريباً نرجسياً علنيّاً... وتعريةً للحياة الحَميمة، بأسلوب مُلفع «بالدم والتغريب والجنس» مثلما يقول كارير. أما شخصيّاته التي تتوه، وتدخل في مواجهة اختياريّة مع الوهم والطبيعة البشرية وبقايا عالم يتلاشى، فلعلّها تفعل ذلك لتعيد بناء نفسها على نحو أفضل.
    اعترف كارير ذات مرّة بأنّ في وسعه أن يحجم عن الكتابة لمدّة سنتين. لكنّه تجاوز معدّله العام هذه المرّة، إذ يعود «رواية روسية»، بعد صمت دام سبع سنوات. يعود عبر طرق مُختصرة، قادته مواربةً الى جدّ يثير الشفقة، وتتملّكه البارانويا. كما لو أنّ تلك الحقيقة تتقاطع مع هواجسه، لتضع أمامه رجلاًً من لحمه ودمه، يُشبه إلى حدّ التماهي أولئك الهامشيين الذين ما برحوا يقضّون مضجعه فيكتب فيهم قصصاً وحكايات.