الرباط ــ ياسين عدنان
ليس للشاعر المغربي كريم حوماري (1972) أي عنوان إلكتروني، ولا يمكن حتى الاتصال على أي رقم هاتف خليـــــــــــوي. ليس لأن شاعر أصيلة زاهد في التكنولوجيا الحديثة، بل ببساطة لأنه قفز قفـــــــــزته النهائيّة في الهوّة الشاهــــــــــقة، قبل أن تتكاثر مقاهي الإنترنت في مدينته الزرقاء الرابضة على المحيط، في الشمال المغربي. غادرنا كريم قبل الإيمـــــــــــيل وقبل انتشار الموبايل على نطاق واسع، فكيف عاد اليوم ليذكرنا بذلك الزمن البعيد، الهارب؟ بفضل بعض الأصدقاء القدامى الذين اختاروا أن ينــــــــــتزعوا الشاعر المتمرّد من براثن النســـــــــيان، وعادوا به إلى هذا العالم (الافتراضي) مـــــــــــن خلال موقع شخصي على الشــــــــــبكة. فما أجمل الوفاء عندما يفاجئك في زمن عزَّ فيه الوفاء؟
حدث ذلك كما لو كان البارحة. كان طائر أصيلة الطليق يتحرك بحيوية في الجانب الآخر من المدينة، بعيداً عن موسم أصيلة الـــــــــذائع الصيت، وبعيداً عن “جمعية المحيط” وقلاع المدينة الثقافية. لقد اختار الهامش وآمن به، وهناك في مقاهي الهامش، دخّن سجائر عطالته وكتب قصائده الأولى التي غرسها كشتلات بريّة، على غفلة من النقاد، في حديقة الشعر المغربي. لكن كريم، هذا الشــــــــــــاعر الذي تسلّل إلى داخل أعـــــــماقه فوجد الهاوية، سيقرر في لحظة من اللحظات أن يصفق باب العمر وراءه ويغادر، في اتجاه المجهول... في اتجاه القصيدة التي لم يكتبها أحد، ولن يكتبها أحد. كان طرياً، ما زال طرياً كغصن، سامقاً كشجــــــــــرة، ومصطــــــــــخباً كموج المحيط.
كان في الخامسة والعشرين. أعدَّ لموته جيداً. فعل كل شيء بتكتم وهدوء، لكن بتصميم وإصرار. اشترى ثياباً جديدة. ذهب إلى طنجة. أكل جيداً، وشرب باستمتاع. ثم عاد هادئاً إلى مدينته... وشنق نفسه. قبل أيام من موته التراجيدي، كتب لصديقه القاصّ مصطفى حيران: “عين الأشباح تطاردني صباح مساء، داخل عروق أصيلة المتشابكة في جسدٍ إيقاعُ دمعِه بطيء، وقلبُه له دقاتُ طبل، لكن لا أحد يسمع...”. كان بعض المخبرين قد دهموا بيت كريم حوماري قبيل انتحاره بأيام. فتّشوا البيت ركناً ركناً، ثم اقتادوا الشاعر المغربي إلى قسم الشرطة للتحقيق معه قبل أن يطلقوا سراحه. لكن يبدو أنهم أطلقوا جسده فقط، فيما ظلت روحه معتقلة لديهم. الروح ذاتها التي ستصير لها أجنحة حلَّقت باتجاه الأعالي يوم 4 آذار (مارس) من عام 1997.
حدث ذلك منذ عشر سنوات. والقصائد الواعدة التي خلفها كريم حوماري، طبعها الأصدقاء بعد رحيله وأصدروها تحت عنوان “تقاسيم على آلة الجنون”. الديوان نفد سريعاً، ولم يعد هناك من أثر لصوت كريم حوماري. الشعراء انشغلوا عنه بحروبهم الصغيرة، النقاد شُغلوا عن تجربته الطرية بشعراء الجامعات والأعمال الكاملة. لم يبق هناك غير كرم الصداقة الذي ما زال بوسعه الاحتيال على الغياب، لكنه هذه المرّة أيضاً حضور أليم وكليم في آن. بادر الشاعر إدريس علوش، ابن أصيلة وصديق الشاعر الراحل، إلى إنشاء موقع إلكتروني لكريم حوماري بمساعدة شاعر آخر هو محسن العتيقي. مات كريم حوماري قبل عشر سنوات، هكذا مع سبق الإصرار والترصد، وبقسوة مع الذات لم يعهدها فيه أصدقاؤه. غادرنا قبل الإيميل والإنترنت. لكنه اليوم عاد ليتخذ له موقعاً ــ إلكترونياً ــ بيننا.
هذا الصباح، قرأت مرة أخرى بعض قصائد ديوانه الجميل “تقاسيم على آلة الجنون”. وغداً، سأقرأ قصائد أخرى، وسأترك لك عزيزي كريم رسالةً في دفتر الزوار. شكراً إدريس علوش...

www.karimhoumari.jeeran.com