strong>خليل صويلح
تنطوي أعمال زياد دلول على شحنة تعبيرية فريدة. ويخوض هذا التشكيلي السوري المقيم في باريس، مغامرة لونية، تنفتح على أطياف سحرية في اختراق موجودات الطبيعة. مغامرة لا تتوقف عند حدود المرئي بل تتوغل في اختبار ضبابية الأشياء والاحتفاء بالعناصر البسيطة بمعاينتها من الداخل.
للكرسي والمائدة والسرير حضور أساسي في المعرض الاستعادي الذي استضافه «المركز الثقافي الفرنسي» في دمشق أخيراً. يستحضر هذه العناصر من تخوم الذاكرة البعيدة، ويحوّلها مسرّات جمالية على خلفية خبرة تصويرية أصيلة.
ليس ما يرسمه دلول مجرد مناظر طبيعية، وإن كانت الطبيعة جوهر اشتغالاته. الطبيعة في لوحاته مزيج من التجريد والملموسات، كأن هذا الفنان لم يغادر مكانه الأول في الجنوب السوري، قبل عقدين إلى الجزائر، ثم باريس. تبدأ اللوحة بمناخات ضبابية لتتكشف في طبقة ثانية عن سرد بصري يتشكل على مهل: مقاطع من أشجار، ووجوه نساء مسربلات بضباب أزرق. موائد مستوحشة في فضاء شمعي يكاد يتفجر بعطر سري، وأرواح تهيم في المكان... كأنها لأشخاص كانوا هنا قبل قليل.
يحتفي زياد دلول بكأس على طرف مائدة بقدر احتفائه بشجرة زيتون. يشدّد على تخليده للهش والعابر، بريشة تحفر أنساقاً لونية وطبقات عاجية، ومنها تنبثق أشكال تجريدية كأنها صدى لفيض روحاني وتأويلات للضوء والظل في فضاء اللوحة. موائد زياد وولائمه وكراسيه، لا تنفصل عن الطبيعة التي تحيط بها بشفافية وعمق. كما لو أنها قرابين غامضة وطقوس مستمدة من ميثولوجيا البيئة المحلية التي نشأ فيها وتشبّع برموزها. في متتالياته عن المدن، ينفذ هذا الفنان إلى فضاء مختلف في معطياته وأدواته. فضاء غرافيكي نزق استمده من نصوص كتبها الشاعر أدونيس عن مدن اختبرها في ترحاله الطويل من نيويورك إلى مراكش. المحفورات التي أنجزها الفنان بمعالجات رمزية، تستلهم رائحة المكان وتاريخيته من منظور اللون والخط، على خلفية الإيقاع الشعري. هكذا بدأت التجربة بين الشاعر والفنان في نهاية ثمانينيات القرن الماضي بكتاب مشترك تحت عنوان «شهوة تتقدم في خرائط المادة». وتلتها تجربة أفرزتها رحلة ثنائية إلى مدينة البتراء، فكانت قصيدة «يد الحجر ترسم المكان» مرفقة بمحفورات تقتفي أثر المكان والقصيدة. وتبلورت هذه الشراكة الإبداعية مع أدونيس بـ «كتاب المدن». ثراء الشعر والكلمات قاد الفنان السوري إلى فضاء الصحراء العربية عبر أبرز آثارها، وهي «المعلقات العشر». ومن محترفه الباريسي، بدأ زياد دلول التجربة، مستحضراً أرواح امرئ القيس وعنترة، وطرفة بن العبد وآخرين. كل هذا في حوار بين القصيدة الجاهلية وتجليات اللون، ليرمم برؤية الفنان المعاصر أبعاد قصائد لم تمحُها الرمال.