عدنية شبلي

قبل أيام اتصلت بوالدي لأعزّيه بوفاة صاحب “الثلاثية”. قال بصوت حاكته خيوط من الحزن الخفي: “نجيب محفوظ كان بالنسبة لي أقدس ما في هذا الكون”، فوجدتني أعلق في سري: “ها أبي يشعر بالحزن على الرجل أكثر مما شعر عقب وفاة والدته. جدتي”. إنه نجيب محفوظ مرة أخرى إذاً، بقوة وبوضوح، الفارق الأساسي بيني وبين أفراد عائلتي.
لقد نشأت في عائلة كبيرة، جميع أفرادها من القراء الجشعين، ما جعل طفولتي المبكرة من أتعس ما يكون، فلم يكن هنالك أحد ألعب معه. أمي لم تسمح لي باللعب مع أولاد الحارة “القذرين وغير المؤدبين”، بينما إخوتي وأخواتي كانوا منشغلين دائماً بالقراءة.
أذكر مرة، ربما كنت وقتها في الرابعة من عمري، رأيت شقيقتي تعبر غرفة الجلوس ثم تنفجر ضاحكة. وأردت أن أضحك أنا أيضاً فسألتها ما الذي أضحكها؟ فجأة نظرت إليّ إلى الأسفل، وقالت إنها تذكرت شيئاً ما قرأته وأكملت طريقها. هكذا أدركت في سن مبكرة أنه ينقصني معرفة القراءة كي أعيش مع إخوتي، أشاركهم أحاديثهم وأحلامهم. بدأت من الرف الأول بأول كتاب، ببساطة، فقد كنت فاقدة لأي نوع من الثقافة الأدبية المسبقة التي تخولني الاختيار وفق معايير أخرى. قراءة الأدب كانت محكومة آنذاك بإخوتي، وبرغبتي في أن أكون جزءاً من عالمهم. وكان هنالك خمسة رفوف، وكل رف من بينها يساوي على الأقل عامين من الفرق. هنالك ما بين خمسة إلى عشرة أعوام من القراءة تفصل بيني وبين إخوتي.
بعد الرف الأول الذي تكوّن من الأدب العالمي، وصلت الى الرف الثاني. نجيب محفوظ. فقلت بما أنه كاتب واحد، ربما أقفز عنه، وأكون بذلك قد ضيّقت الفجوة التي تفصل بيني وبين إخوتي بثلاثة أعوام على الأقل، أي كما لو أن والديّ أنجـــبـــاني في عام 1971 لا في عام 1974.
كان قراراً صعباً، محكوماً بحبي وبشوقي لإخوتي لا للأدب. قلت أعود إلى هذا الرف لاحقاً، بعد أن أنتهي من الرف الخامس. صعدت يداي إلى الرف الثالثK ولم أخبر أياً منهم عما فعلت.
ثم ذات شتاء قرر والدي السفر إلى القاهرة، فاجتمعنا حوله لنعدّ معاً قائمة الهدايا. جلس هو وفي يده ورقة وبدأنا نملي عليه، من الكبير إلى الصغير كالعادة، وللأسف. وكتب هو مطالبهم الرئيسية: كتب كذا وكذا لنجيب محفوظ. كذا وكذا لنجيب محفوظ. كذا وكذا لنجيب محفوظ. ثم نشب شجار بين شقيقتيّ حول كتاب “خمارة القط الأسود”، فكلتاهما أرادتا العنوان نفسه، وفي العادة يقع حق الأولوية في قراءة كتاب ما، ضمن صلاحيات من يطلبi. وتداركاً للأزمة تقرر أن يحضر والدي نسختين من “خمارة القط الأسود”. أما أنا فرحت ألوذ بالصمت حتى جاء دوري، وطلبت آخِر مؤلفات توفيق الحكيم التي كنت قد علمت بها من إحدى المجلات، وذلك نكاية بنجيب محفوظ.
وبعد أيام عاد والدي من مصر، معه حقيبة إضافية، قال إنها تحوي الكتب، فهجم عليها إخوتي كالقطط الجائعة. وحين حاولت الهجوم معهم أنا أيضاً، قال لي والدي إن كتابي الذي طلبته ليس هناك بل في جيب معطفه. أخذت كتابي الذي احتضنه، وجلست في حضن أبي أرقب أخوتي الأوباش وهم مجتمعون حول الحقيبة التي لم أكن أملك أي حق في الاقتراب منها. كان لونها عنابيّاً. وراحوا هم يتقاسمون فيما بينهم ثروة محفوظ الأدبية. وكلما زادت سعادتهم بكتاب ودهشتهم من آخر، زاد إحساسي بالضغينة تجاه هذا الكاتب وعدائي لأدبه.
بعد أسابيع، وبعد أن هدأت ثورتهم وقرأوا ما قرأوا، عادت الكتب الجديدة تستند إلى القديمة في الرف الثاني، ثم امتدت إلى الثالث، دافشة بذلك كل ما هو ليس من مؤلفات محفوظ حتى منتصف ذلك الرف. وذات يوم، بينما وقفت أمام المكتبة أبحث عن كتاب أقرأه، تسللت يدي من دون وعي، إنما مدفوعة بفضول خفي دفين، إلى كتاب “خمارة القط الأسود”، سحبته ورحت أتأمل غلافه، من دون أن أفتحه. كنت وقتها قد أدركت أنني أضعت إلى الأبد فرصة مشاركة إخوتي “بيتهم” الأدبي الحقيقي، بعدما قفزت عن كتب نجيب محفوظ. وكان قد بات متأخراً أن أصحح مثل هذا الخطأ الفظيع. كان ذلك سيكون بمثابة اعتراف مني بكراهيتي لعزلتي ولوحدتي التي طالما شعرت بها بينهم، ولم يكن من المشرف أن أعترف بذلك. كبريائي الطفولية لم تكن لتسمح بمثل هذا الاعتراف. وفجأة دخلت شقيقتي الغرفة حيث المكتبة ورأتني أحمل كتاب “خمارة القط الأسود”، فسألتني بلهفة شديدة إن كنت قرأته، ولم أدر كيف تحرك لساني بكلمة “نعم”. فأضاءت عيناها بهجة وحماسة وشرعت تحدثني عن أكثر شخصيات الكتاب وقصصه التي أحبتها، ورحت أنا أهز رأسي بانفعال مفتعل، فيما إحساسي بالعار تجاه نفسي وكذبي يتفاقم.
ولم أقرأ أياً من مؤلفات نجيب محفوظ حتى صيف عام 2003. كنت في باريس، وأنهيت قراءة كل الكتب التي كانت معي بالعربية. كنت أمكث فترتها في شقة صديق مسافر، فأخذت أبحث عن كتاب بالعربية، بين كتبه التي كان غالبيتها بالفرنسية والإنكليزية. وجدت كتابين أو ثلاثة، أحدها كان “قصر الشوق”. وبرهبة ووجل أمسكت بهذا الكتاب، وبحقيقة فراغي من أدب محفوظ، وبتقديس عائلتي له الذي جعلني أثور ضده بمحض الصدفة... ثم قلت في نفسي: أنا الآن في التاسعة والعشرين، وقد نضجت بما فيه الكفاية. ربما حان الوقت.
وبدأت أقرأ “قصر الشوق”، ولم أتمكن من التوقف عن ذلك. وأي إحساس بالفراغ ذلك الذي راح يغمرني بعد إتمامي قراءة الكتاب. أخذت أدور وأقول: “يا ربي، إن نجيب محفوظ كاتب رائع”، بينما الجميع ينظر إليّ كما لو أنني بلهاء: “طبعاً هو رائع، ما الجديد الذي اكتشفتِه!”.