مقالات مرتبطة

يحكي الفيلم قصّة صبيّة فلسطينية في الرابعة عشرة من عمرها تُدعى فرحة (تلعب دورها كرم طاهر) تعيش في قرية فلسطينية في مكان ما من الضفة الغربيّة في أجواء حرب 1947 – 1949 أو ما صار يُعرف بـ «النكبة». تحاول فرحة المتعلقة بالقراءة والكتب إقناع والدها (أشرف برهوم) مختار القرية، بإرسالها للدراسة في مدرسة ثانويّة في المدينة عند أقاربها. عندما يقبل الأب أخيراً، تجتاح العصابات الصهيونيّة المنطقة، فيضطر المختار لحماية ابنته بأن يخفيها داخل العقّاديّة (غرفة المونة)، فيغلق عليها الباب ويتركها وحيدةً مع خنجر ووعد بالعودة لأخذها. من محبسها، تشهد فرحة من شقوق الباب على عمليّة إعدام تقوم بها قوات الاحتلال لعائلة مهجّرين احتموا بالبيت المهجور، قبل أن تنجح أخيراً في الخروج لتهيم وحيدة على وجهها (وتنتهي في سوريا وفق ما تزعم سلام التي تذكر في نصّ في نهاية الفيلم عن بطلة القصة الأصليّة التي سمعتها المخرجة من صديقة لأمّها).
منهجيّة سلام (أدارتها شبكة «تشيمني» السويديّة المتخصصة في صياغة السرديّات وسنعود لهذا تالياً)، تقوم على تصوير الفلسطيني ضحيّةً سهلةً لعدوّ مجهّل. لا تُذكر كلمة اليهود في كل الفيلم. مأساته ذاتيّة من سوء إدارة أهله للصراع (لا علاقة لليهود بحبس فرحة من دون ماء أو تواليت وراء باب مغلق من الخارج وإنما هي جناية والدها)، والمقاومة فيه غريبة ومعزولة عن المجتمع، ونخبة المجتمع (المختار الساذج، والقريب المتعلم والمتحدث بلغة أجنبيّة) بين مسالم وعميل، بينما الباقون مجرّد كتل هلاميّة هائمة، والعميل الخائن يقدّم بطلاً يجرؤ على مناهضة القائد اليهوديّ ويعارض الاعتداء على النساء والعزّل، فيما يصوّر الجندي الإسرائيلي الشاب ذا قلب مرهف، يرفض تنفيذ أوامر قائده بالإجهاز على الرضيع الذي قتل أهله فيلقي ببندقيته أرضاً غاضباً. وقبل أن يلتحق ببقية الجنود، يغطيه بمنديله الشخصي.
الثقوب التاريخيّة في هذه الحكاية كثيرة. فـ «اليهود» كانوا مركز الحدث في فلسطين، قبل أن تصبح لهم دولة يعترف بها الغرب والعرب. وهذه تسمية موجودة بكثافة في المصادر العبرية والبريطانية والأميركيّة من فترة ما قبل النكبة، وتجاهلها تغابٍ عن الواقع الذي يدّعي العمل تسجيله، والمقاومة الوطنيّة كانت حبّة عين المجتمع الفلاحي الفلسطيني الذي كان بيئتها الحاضنة ومصدر قوّاتها وتمويلها وتسليحها، وهي مقاومة صلبة وعنيدة اضطرت معها بريطانيا لأن تستجلب ـــ إضافة إلى العصابات اليهوديّة ـــــ تعداداً للقوات فاق ما كان تسيطر به على كل الهند/ القارة. أما الخونة، فكانوا أنذالاً من كل الطبقات ولا يجوز تقديمهم كشجعان، والجنود العبران بشهاداتهم ـــ ووفق الوثائق الإسرائيليّة الرسميّة ـــــ لم يرحموا رضيعاً، فقتلوا الصغير قبل الكبير والنساء قبل الرجال والعزّل قبل المسلحين، وبقروا بطون الحوامل وسلقوا جثث أولادهن بالماء الساخن، فمن غير المفهوم ولا المعقول ولا المقبول تقديمهم لطفاء وإنسانيين وذوي ضمير.
على المستوى الفنيّ المحض وباستثناء البداية الواعدة من أجواء الأثواب والأعراس الفلسطينية في القرى، فإنّ الكاميرا تقضي ساعةً كاملةً داخل غرفة المونة في إيقاع بطيء ومخلّ للغاية، وهناك بسترة ظاهرة لكل العنف لمصلحة تفاصيل ليست ذات قيمة، وليس هناك ذكر لفلسطين البلد أو مشهد لعلمها أو أيّ من معالمها، ولا حتى اسم القرية أو اسم المدينة، ولا يسمع في كل الفيلم سوى جملة عبرية واحدة في الخلفيّة، ما يجعل الحكاية برمتها خارج الجغرافيا كما هي خارج التاريخ. تتعدد المقاطع غير المقنعة درامياً مثل عدم عثور الجنود الصهاينة على باب (غرفة المونة) بينما نراه يطلّ مباشرة كباب على قلب مصطبة البيت حيث نفذت الإعدامات بحق المدنيين. وهناك ضعف شديد في توظيف الصوتيات لخدمة بنية الفيلم، وهناك قطع غير سليم تقنياً في المشهد بين منظر الرضيع وقد فارق الحياة يتكاثر حوله الذباب وما بعده، وخروج فرحة من البيت إلى القرية، ومنها إلى سوريا من دون أن نرى جثةً واحدةً، فيا له من احتلال حضاريّ نظيف!
بَستَرَة ظاهرة لكل العنف ولا ذكر لفلسطين البلد أو مشهد لعلمها أو أيّ من معالمها
بالطبع، فإن المشكلات الفنيّة والتقنيّة في الفيلم تحملها سلام وفريقها (المنتجون الأردنيّون ديمة عازر، وآية جرادنة والمخرج السويدي ويليام يوهانسين كالين)، لكن مجمل الصياغة والمنهجيّة التاريخيّة والبصريّة يمكن قراءتها في ظهور اسم شبكة «تشيمني» السويديّة المتخصصة في صياغة السرديّات التي يبدو أنها نظّفت الفيلم بصرياً وصوتياً من كل ما من شأنه أن يزعج الصهاينة، وكذلك في قائمة الممولين الطويلة: «الهيئة الملكيّة الأردنيّة للأفلام» (واجهة السلالة الحاكمة في الأردن للسينما والمعروفة بتواطئها مع السرديات العبريّة والغربيّة)، و«صندوق مهرجان البحر الأحمر السينمائي» (واجهة آل سعود للسينما وهم من هم في التهوّد والتطبيع)، و«المورد الثقافي» (واجهة تحالف «منظمة المجتمع المفتوح»/ سوروس ورفاقه، والاتحاد الأوروبي، و«فورد فاونديشن» المرتبطة بالمخابرات الأميركيّة، ومؤسسات سويدية وسويسريّة وبريطانيةّ لتسميم الثقافة في العالم العربي)، إضافة إلى دعم خاص من المخرجة اليهوديّة المعروفة مادلين إيكمان العضو في لجنة اختيار الأفلام في «معهد السينما السويدي» المعروف بتوجهاته المعادية لفلسطين. سلام ليست وحدها في شباك هذا المنظومة. يكفي أن تدقق قليلاً في الأفلام الروائية والوثائقيّة التي تصل إلى المهرجانات العالميّة، لتجد أنّها تَقتصر على تقديم صور مستشرقة عن الشرق، وحكايات المثليين والمتحولين فيه، وهجاء «الديكتاتوريات» العربيّة بشقّها الجمهوريّ دون الملكي، وقصص اللاجئين السوريين، وهم ضحايا برنامج غربي لكسر سوريا، ومأساة تشريد الفلسطينيين من مخيّم اليرموك حصراً التي تلقى ظلماً وزوراً على عاتق النّظام السوري، وممولة جميعها من دون استثناء من ذات مجموعة الأطراف المخابراتية المشبوهة.
يجب أن ندرك كمشاهدين فلسطينيين وعرب بأن المنتج الفنيّ ليس محايداً، ولم يكن ولو لمرّة واحدة في التّاريخ كذلك ولن يكون بأي حال، وهو ابن قحّ للجهات القائمة على إنتاجه، يحمل جيناتها الوراثية، ويتربى في ظلّها، ويحمل لغتها، وانحيازاتها وعماها وأوهامها. «فرحة» منتج غربيّ محض، وإن وضع عليه اسم مخرجة عربيّة، يحكي النكبة الفلسطينية كما يسمح لنا التمويل الغربي بأن نراها، مع تعاطف غريب ومبالغ فيه مع الجانب العبري، رغم تذمّر استعراضيّ لمتطرفين إسرائيليين من عرض الفيلم على منصة عالميّة يعدونها فضاء مغلقاً عليهم.