قبل أربعين عاماً، غادرنا غسّان كنفاني ومعه لميس (ابنة أخته) التي كتب لها أجمل القصص. كنت أعتبر نفسي محظوظاً حين التقيته أوّل مرّة في بيروت صيف عام 1965. كانت شهرته قد طبقت الآفاق بعد صدور روايته «رجال في الشمس» ودخوله عالم القصّة القصيرة ليؤكّد على جدارته باعتباره من أهمّ كتّاب القصّة الفلسطينيين والعرب في الستينيات. كان موهوباً منذ قصته الأولى التي نشرها أواخر الخمسينيات. وكان يحتشد للانتباه بمأساة شعبه التي تفتّح وعيه عليها انطلاقاً من تجربته الشخصيّة التي عاشها في مسقط رأسه عكا، وانطلاقاً من تجربة شعبه التي التقطها بوعيه الحادّ إثر النكبة التي أدّت إلى ضياع الجزء الأكبر من فلسطين، وانهيار المجتمع الفلسطيني الذي كان يخطو على دروب الحداثة آنذاك.
حين التقيته، كنت أحمل له سلاماً خاصاً من زميله الذي عاش معه في غرفة واحدة في الكويت. تلفّظت باسمه أمام غسّان، فتذكّره فوراً وقال: تقصد محمّد البطراوي. قلت: نعم. وكان أبو خالد البطراوي قد دخل الكويت بجواز سفر مزوّر بعد رحلة عذاب من قريته أسدود إلى معتقل هنا وسجن هناك. وظلّ يتنقّل حتى استقرّ به المقام في الكويت، قبل أن يُطرد منها مجدداً حين اشتدّت حملات العسف ضدّ اليساريين الفلسطينيين والعرب. في جريدة «المحرّر» التي كان غسان رئيس تحريرها، رأيته يدير أحاديث سلسة مع زملائه، ويصرّف أمور العمل اليومي. كنت قادماً إلى بيروت من القدس، وكم سألني غسان عن القدس والقسم المتبقي في أيدي العرب من فلسطين! وكنت أحمل إليه رسالة أخرى من الشاعر أمين شنّار رئيس تحرير مجلة «الأفق الجديد» المقدسية، لعلّه يكتب للمجلة وينشر فيها بعض قصصه.
ومن سوء حظّي أنني لم أقابل غسان مرّة أخرى. عدت إلى القدس ووقعت هزيمة حزيران، واغتيل غسان بعدها بخمس سنوات بأسلوب حاقد جبان. غادرنا بجسده وبقي أدبه في القصّة والرواية والمسرح والبحث التاريخي والدراسات النقدية والمقالات الأدبية والسياسية التي ملأت عشرين كتاباً، أنجزها في فترة قياسية لا تتجاوز 16عاماً من ممارسته للكتابة.
ولم يكن هذا كلّ شيء. كان قائداً سياسياً مرموقاً في الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين، وكان رئيس تحرير مجلّتها المركزيّة: «الهدف» التي جعلها مدرسة في الصحافة النضاليّة والفكر السياسي الثوري. كان مثقّفاً بالمفهوم الذي كرّسه غرامشي عن المثقف العضوي. انعكس حسّه الثوري على أدبه، فلم يعرف الركون إلى أشكال أدبيّة ثابتة، ولم يبهظ نصوصه بحمولات عاطفية زائدة ولا بالتفجع الرومانسي، ولم يكن صعباً عليه تحديد معالم الطريق إلى فلسطين. كان دائم التجديد والمغامرة والتجريب. كتب القصّة القصيرة الكلاسيكية بأسلوب حديث، وكتب المتوالية القصصية التي يمكن اعتبارها رواية في بعض أوجهها وأقصد «عن الرجال والبنادق». وكتب الرواية النخبويّة ذات البعد التجريبي المعتمد على التداعي الحرّ واستبطان العالم الداخلي لشخوصه، وأقصد «ما تبقّى لكم». وواكب بدأب مأساة شعبه وتحوّلاته بدءاً من بؤس اللجوء ومرارة البحث عن لقمة الخبز، والركون الواهم إلى الخلاص الفردي كما في «رجال في الشمس» وصولاً إلى تحوّل المخيّم إلى غابة لبنادق المقاومة كما بدا في روايته «أم سعد».
وحين احتدم النقاش في أوساط المثقّفين العرب أوائل الستينيات حول الالتزام الذي رآه بعض الكتّاب والنقّاد بدعة ماركسيّة، ونظروا إليه باعتباره قيداً على حريّة الأدب والأدباء، كان غسان يمارس التزامه بالقضية الفلسطينية عبر فهمه العميق للالتزام الذي يفجّر قدرات الأديب ولا يقيّدها، ويساعده على رؤية الجوهري في القضيّة المتمثل في بعدها الإنساني النضالي، وما يشتمل عليه هذا البعد من قيم نبيلة تتخطّى زمانها ومكانها، وتعزّز حضور القضية الفلسطينية بوصفها واحدة من أهمّ قضايا الحريّة في العالم.
يوم أمس، وأنا في عكا، حيث ولد غسان وعاش طفولته، تذكّرت بيروت وذلك اللقاء اليتيم. واليوم، وأنا في رام الله، أتذكّر تلك المشاوير الطويلة مع أبو خالد البطراوي الذي يروي لي ذكرياته مع غسّان، ويحدّثني عن الإرهاصات الأولى لـ «رجال في الشمس» التي كان شاهداً عليها.
واليوم، وقضيتنا الوطنيّة تجتاز مرحلة من أصعب مراحلها، فإنّنا بحاجة إلى مثقّفين ثوريّين لهم سمات غسان الذي كان أدبه إرهاصاً بولادة الهوية الوطنية الفلسطينية المعاصرة، وبتحوّل الفلسطيني من لاجئ ينتظر الصدقات إلى مقاوم معتدٍّ بكرامته لا يعرف اليأس ولا الخنوع. وإزاء ذلك، نحن أحوج ما نكون إلى إعادة قراءة غسان للتعرّف إلى مزيد من أسرار أعماله الإبداعية، ولوضع هذا كلّه في متناول الأجيال الصاعدة، وفي خدمة الثقافة الوطنية الفلسطينية لتعزيز حضورها الذي عزّزه منذ الأساس غسّان، وما زال يعزّز هذا الحضور.

* كاتب وروائي فلسطيني (تنشر بالاذن من مجلة «الهدف»)