القاهرة ـــ حقّق جابر عصفور حلمه. حمل لقب «وزير سابق». أصبح الآن وزير ثقافة سابقاً بعدما قفز من السفينة قبل لحظات من غرقها. راهن عصفور على نظام يترنّح، وبرّر ما قام به بأنّه قبل منصبه «من أجل أن يسهم في إطفاء الحريق»، لكنه كان رهاناً خاطئاً. لم يكن حريقاً كما تصوّر، بل ثورة شعبية حقيقية، قدّمت شهداء في عمر الشباب، وكشفت عن فساد لم يكن ممكناً تصوّره.هرب جابر عصفور قبل أن يخرج المثقفون عليه متجهين إلى وزارة الثقافة للمطالبة باستقالته، وكانوا يخطّطون لذلك يوم السبت المقبل، لكن لماذا كانت استقالته؟
أكّد جابر عصفور أنّه قدم استقالته من منصبه أول من أمس «لأسباب صحية»، بعد عشرة أيام من توليه المسؤولية في الوزارة التي تألّفت عقب «ثورة الغضب». وقال مصدر مقرّب من عصفور إنّ «نص الاستقالة تضمّن أسباباً عدة سيكشف عنها في وقت لاحق».
وكان عصفور قد تعرّض لانتقادات شديدة من جانب مثقفين مصريين وعرب إثر قبوله هذا المنصب. ورأى هؤلاء أنّ قبوله المنصب في وقت تشهد فيه مصر انتفاضة من أجل الديموقراطية، يُعدّ تناقضاً مع تاريخه كمثقف مؤمن بالحرية.
وقد كشفت مصادر قريبة لـ«الأخبار» أنّ عصفور فكّر طويلاً قبل أن يوافق على تولي الوزارة ثم الاستقالة، وخاصةً أنّه تلقى مئات المكالمات من المثقفين العرب تدينه على قبول المنصب. كما قرأ عشرات المقالات التي هاجمته، لكنّ الأهم هو ما حدث في اجتماع مجلس الوزراء الأول يوم الاثنين الماضي. فى بداية الاجتماع، تحدث عصفور بحماسة عن قبوله الوزارة باعتبارها حكومة وحدة وطنية، ستضطلع بمهمة إنقاذ الوطن في هذه اللحظة. وطالب بأن يُبحث عن أسماء من المعارضة أو من المستقلين لتولي الحقائب الوزارية التي لا تزال شاغرة، لكنّ وزير المجالس النيابية والشؤون الدستورية مفيد شهاب اعترض على ما قاله عصفور، وحاول أن يوقفه أكثر من مرّة، لكنّ عصفور طلب منه أن يكمل حديثه ولا يوقفه. وأضاف عصفور إنّه تأثر «بصور الشهداء طويلاً. ولا بد من التحقيق في ما حصل من عنف أوصل الشهداء إلى ما يقرب من 300 شهيد». وما إن صمت، حتى خرج وزير الإعلام أنس الفقي من عقاله وقال مهاجماً عصفور: «من قال إنّها حكومة إنقاذ وطني؟ إنّها حكومة الحزب الوطني برئاسة مبارك، ولا يوجد فيها مستقلون كما تتصوّر». ثم تدخّل وزير الداخلية محمود وجدي قائلاً: «لماذا تتحدث عن شهداء لهم؟ ألم يقع شهداء من جانبنا». وهنا، دخل وزير الصحة أحمد سامح حسني على الخط مضيفاً: «لم نحصر عدد الشهداء، وأظن أن رقم 300 مبالغ فيه». باختصار، بدت الحكومة في اجتماعها الأول، ضد الثورة والشباب، فشعر عصفور بأنّه «لا فائدة».
من جهة أخرى، فوجئ عصفور بعشرات المسيرات التي سار فيها موظفو وزارة الثقافة، مطالبين بحقوقهم، وبديون عديدة على الوزارة لمصلحة الناشرين العرب والمصريين، الذين كان يُفترض أن يشاركوا في معرض الكتاب الذي تأجّل إلى أجل غير مسمّى.
وكانت صدمته أكبر عندما فوجئ بموجة استقالات عدد من المثقفين البارزين، أمثال جمال الغيطاني، وبهاء طاهر، وإبراهيم عبد المجيد من المجلس الأعلى للثقافة، الذي كان عصفور يشغل منصب الأمين العام فيه قبل تولّيه وزارة الثقافة. أضف إلى ذلك بيانات وخطوات جدية اتُّخذت بهدف مقاطعة أنشطة الوزارة كلها حتى تنحّي حسني مبارك. وكان عدد من أبرز قادة الوزارة يستعدون جدياً للاستقالة من العمل في الوزارة، لذا، لم يكن أمام عصفور سوى أن يقفز من السفينة. هكذا، استقال لكنه لم يُرد أن يحرج النظام، فعزا ذلك إلى أسباب صحية، علماً بأنّ مثقفين أصدروا منذ أيام بياناً أدانوا فيه «الموقف المخزي لعصفور بسبب قبوله تولي حقيبة وزارة الثقافة في نظام لفظه الشعب بكل أطيافه، فيما يرفض هذا النظام التخلّي عن السلطة ويستخدم كل وسائل الترويع القذرة للتشبث بها».
وكان يوم أمس قد شهد عدداً من الوقفات الاحتجاجية للمثقفين المصريين، تحرّكت الأولى من أمام المجلس الأعلى للثقافة، والثانية من أمام اتحاد الكتاب، والثالثة من أمام نقابة السينمائيين. وتحركت الحشود لتلتقي في ميدان التحرير. وقد توحّدت الهتافات جميعها مطالبة برحيل مبارك، وبالتحقيق في الفساد الثقافي الذي شهدته مصر طوال سنوات حكمه!