في سيدي بوزيد، حلّقت سنونوة وحيدةً في ذلك الصباح الكئيب. لم يكن الفصل ربيعاً، لكنها أصرّت على الطيران، فقد كانت تحب أن تكون نشازاً. كانت تعرف أيضاً أن هذا الهواء الصقيعي سيقتلها، فجناحاها الغضّان أضعف من أن يقاوماه، لكن لأجل هذا الشيء تحديداً، خرجت من العش: لتمزقه بذيلها المسنّن. حلّقت عالياً، وبدا العالم تحتُ ضئيلاً تافهاً، في زرقة اللازورد تلك. رأت الفلاحين يذهبون إلى حقولهم، والعمال يدخلون مصانعهم، وقد حنت متاعب الحياة أكتافهم، واستسلموا لها صاغرين. لكن ما استوقفها كائناتٌ صغيرة اجتمعت في ميدان مدرسة تردّد النشيد، على وقع جرس يرسم لها أوقات الدخول والانصراف.
لم تشعر بنفسها إلّا وهي تنقضّ كالسهم، وتقتحم أحد الفصول. عاثت السنونوة في الفصل ضوضاء، وابتهج لها التلاميذ. اقتلعتهم من ذلك الدرس الغبي الرتيب، وحلّقت بعقولهم لحظات في المدى. اصطدمت بالجدران، وطاردتها الأيدي لتمسك بها، لكن هيهات! لم يذكر أحد أنه رأى سنونوة تقف على عُرف شجرة، فكيف بها في يد سجّان! أما هي، فعرفت أخيراً طريقها إلى النافذة، وعادت تشق السماء، وربما لتزور فصلاً آخر.
ذُهِل التلاميذ عن درسهم، ولم تنفع عصا الزيتون الرفيعة في أن تعيد إلى الفصل سطوة النظام، فقد شردت الأذهان والأفئدة، وشخصت الأبصار إلى هذا الطائر، واستعاد الأطفال دهشتهم الأولى. أنساهم هذا الطائر الفوضوي وشقشقاته الوحشية البلبلَ الجميل الذي يجلس وديعاً في قفص عُلّق على أحد جدران مكتب المدير، سعيداً بنفسه في بلادة، عندما تطرب له الآذان. عثروا عليها في صباح اليوم التالي، صريعةً غير بعيد عن المدرسة. اخترقتها في مقتلٍ شظيةٌ من زجاج، لكن ليس قبل أن تزرع الدهشة في رفاق آخرين. لم تعش لتعرف أن ربيعاً باكراً قد وُلد، طغى على كل الفصول. لم تعش لترى أن التلاميذ تمرّدوا على الدرس الغبي، وقاعة الفصل ضجّت مُذّاك بضوضاء السؤال، والوشوشات الخجلة والوجلة صارت صرخات.
نعم، سنونوة واحدة صنعت الربيع* في سيدي بوزيد، لكن ليس قبل أن تحترق، عندما رفع التلاميذ جثتها الصغيرة، كان الدم بعدُ ينزّ حاراً. أذاب بقعة جليد صغيرة، ومن هناك... طلعتْ زهرة. في اليوم التالي، كانت السماء زرقاء زرقاء وكانت الأرض عيداً.


* تستلهم فكرة هذا النص نصاً درسناه في طفولتنا بعنوان «سنونوة تدخل القسم».