بيار أبي صعب
«يا ما لك في الحب ضحايا/ بيحكو عنك روايات/ بيقولوا إنك بتألّف/ بالليلة سبع غنوات/ والغنوة الوحدة في ليلة/ تلحنها سبع مرات...».
كان يحبّ أن يمضي السهرة هنا، في خلوة ذلك الصالون البيروتي القديم الذي ينتهي عند القناطر الثلاث، في ضيافة الصديقة الغالية على قلبه. وغالباً ما أكون ثالثهما. نجلس ونضع الكأس ــــــ تلك الليلة كانت زجاجة الـ«غلنمورنجي» في أوّلها ــــــ وهي تختال كأميرة. تجلس وتدير دفّة الحديث بأسئلتها. «طيّب أبو الزوز، قُلّ لي...». السياسة طبعاً. يكفي أن تطرح عنواناً، كي تسمع مطالعته الكاملة للوضع وخلفياته الاستراتيجيّة. معه تشعر دائماً بأنّك ذكي، وتفهم في السياسة!
لكنّنا الليلة سنسمع أغاني حبّ. لقد عاد جوزف من دمشق بمجموعة سي دي نصحه بها صاحب «شام دام»، سلطان السماع العجوز، وبينها اكتشاف ثمين: مغنية سوريّة اسمها منى حسن، تؤدّي بصوت طربي رخيم أغنيات يحبّها كثيراً لفايزة أحمد وشادية وصباح (القديمة) وشريفة فاضل...
الليلة الـ «مود» عاطفي إذاً. بعد كأسين أو ثلاث يصبح أبو الزوز رومنسياً... يتحرر من خجله الأسطوري. يستريح جسد الفارس الآتي من زمن آخر. حين يشرب يصبح مهضوماً، كانت تقول صديقة خبيثة. «إن كنت فاكرني منهم/ روح إسأل قبل أنا مين...». تواصل منى حسن استحضار شريفة فاضل. يحرّك أبو الزوز يده اليمنى، يجمع أصابعه ويوجّهها إلى قلبه ثم صوبنا. ويتمتم مع الأغنية، عيناه شبه مغمضتين. تُرى أين يذهب عندما يغمض عينيه؟ يخاطب امرأة بعيدة، مجرّدة. أين أجدها؟ لدي حديث معها عن السيد جوزف سماحة.
«على مين، على مين، على مين...؟». تعيدها منى حسن وتقول في المرّة الثانية: «على مين يا سيد العارفين»، بدلاً من «يا سيد العاشقين». نرد كلّنا، وقد استدرجَنا إلى انخطافته، كما استدرجنا إلى أشياء كثيرة أخرى: «متروحش تبيع المَيّة في حارة السقايين». في صالون الدار التي كان يطيب فيها السهر، فكرتُ مراراً: كل هذه السنوات ولم أحصر سرّه تماماً: كيف يحبّ أبو الزوز؟
مرّة في باريس، أواخر الثمانينيات قال بين المزح والجدّ: «أظن أنني لا أعرف كيف أحبّ، هل تعتقد أن عليّ اللجوء إلى التحليل النفسي؟». اعتبرت أنّه يدخلنا في تمرين ذهني من تمارينه... يلعب بطريقته الماكرة، يمدّ لي فخّاً، أو ربّما كان يمدّه لنفسه. كل أولئك النساء من حولك يا أبو الزوز، ولا تعرف أن تحبّ؟
صحيح، إنّه على الدوام محاط بالنساء. الرجل اللبق والبارع والأنيق، المترف رغم انتمائه الجذري للكادحين، كان يثير غيرة الكثير من أصدقائه وأبناء جيله، أو لنقل يحرّك فضولهم. هؤلاء المكبّلون بالإيديولوجيا ومركبات النقص... أو ببساطة الرازحون تحت وطأة تربية رجعيّة، محافظة، لا تكفي الأفكار التقدميّة لتجاوزها.
هؤلاء الذين يرونه زير نساء، لم يفهموا شيئاً. أبو الزوز يجذب بذكائه أولاً، لكن أيضاً برقته المجرّدة من كلّ ذكوريّة. يترك سيفه خارجاً، ويدخل عالم الأنوثة بصفتها أرضاً صديقة. الذين يعرفونه يقولون لكم إنّه يخجل كثيراً، يعجز مثلاً عن النظر إلى سيدة تعجبه جالسة قبالته، فيروح يشغل نفسه بمسائل أخرى. وأنا أتسلّى بإحراجه، فيطرق برأسه ويغمغم.
حول التابوت كنّا مجموعة نساء، نبكي ونضحك، ثم نخاطبه. «الزعيمة» قدّمت السيّدة السمراء التي جعلها البكاء أكثر جمالاً، إلى الشابة الطويلة التي تخبئ براكين صوفيّة خلف برودها الظاهر. قالت الزعيمة (مازحة): «أنتما آخر حبيبتين في حياته!». وأحضرت الثانية كؤوس الكريستال من بيتها القريب من الكنيسة، على طريق الشام. على التابوت وضعنا كأساً من البوردو الذي يحبّه، وشربنا نخبه... السهرة نفسها، كان يمكن أن تكون في الصالون الكبير حول طاولة البلياردو، شارع فيكتور هوغو. في الزوايا رجال، من زملائه وأصدقائه ورفاقه ومعارفه، يرمقوننا بعين الريبة. كل النساء حول التابوت، «جوقة عذارى» هاربات في معبد باخوس. يتبارين في الأناقة والإغراء. ترى أيّهن حبيبته؟ كلّهن؟ ولا واحدة! يا رجل كبّر عقلك.
كلا ليس ذاك الـ دنجوان الذي كان يظنّه بعضهم. كازانوفا ربّما، لكن تلك مسألة أخرى. في الغيتو، في مجتمع الرجال، كان يبدو شخصاً آخر. أَتركُه معهم وأمضي. أنا لا أحبّ أبو الزوز إلا في رفقة النساء. هنا يصبح إنساناً آخر، يبدو سعيداً وخفيفاً هو المثقل بهموم الأمّة ومساكين العالم. تبين الغمازة، ويبتسم من كل قلبه، ويصبح ماكراً، ينظّم المقالب. أو يحكي حكاياته القديمة، يستحضر الزمن السعيد، والوجوه الغالية، والمواقف التاريخيّة.
في حياتي لم أرَ إنساناً يضجر بسرعة مثل جوزف! والنساء (أو احتمالهنّ)، كنّ العلاج الناجع ــــ الموقت ــــ لضنى الروح وقحط الوجود، حين لا تعود تكفي السياسة. مجرّد ذكْر هذه المرأة أو تلك، كان يجعل عينيه تضيئان. دائماً يبدأ المشاريع، بينه وبين نفسه، ثم يعدل عنها. مستحيل أن يقوم بالخطوة الأولى. كيف يعقل أن يكون مثل باقي الرجال الذين «(لا) يفكّرون (إلا) في ذلك»؟ لم يكن ليسامح نفسه إن بدا هكذا، أو إن هو تطفّل على امرأة بايحاء أو إشارة. كان يرمي شباكه وينتظر. يكتفي بالغواية. يعيش وسط دائرة من المشاريع الممكنة، والحبيبات المحتملات، وهنّ غالباً الحبيبات المناسبات لرجل مثل أبو الزوز. إنّه يشبه المرأة (في الكليشيه السائد)، يكفيه أن يكون محبوباً ومرغوباً. كان يكفيه أن يعجب...
نسيت أن أقول إن جوزف تعامل مع الحياة (وربّما مع العلاقات العاطفيّة أيضاً)، باعتبارها ورطة كبرى، ورطة متواصلة لا مفرّ منها. ورطة من الأفضل مواجهتها بذكاء وديناميّة، وقدرة على اللعب والمناورة والابتكار. لقد كان لاعباً ماهراً، كما في السياسة والبليار. ولولا النساء، لقضى عليه الضجر من زمن بعيد، قبل أن يقتله عصره، وتغلبه أوجاعه السياسيّة والإنسانيّة والوجوديّة. أسمع الآن ضحكة ماكرة، عابثة، مسرحيّة، وأنا أكتب هذه الكلمات. صاحبة الضحكة تعرف جيّداً عمّا اتحدّث.
صديقه المثقف الطليعي قال له يوماً: هذه المرأة لا تليق بك اجتماعياً. تزوّج «بنت ناس»، ثم عش حياتك كما تريد. كلا هذا ليس أبو الزوز. المؤسسة الزوجيّة تخنقه، رغم حنينه إلى الحياة العائليّة. إنّه حقيقي وكامل ووفي بشكل متعب أحياناً! الإحساس بالتضامن الطبقي، هو من العوامل التي تثير عاطفته الجامحة، وتعلّقه الراسخ. أما البورجوازيّة فوظيفتها، كما في أفلام لوي بونويل، أن تحرّك الرغبات وتدغدغ الأوهام! إنّه فقير، ابن فقراء، أبو الزوز، ما زال يذكر طبخة البحص التي وعدتهما بها أمّه كي يناما، هو وأخوه.
ثم جاءت الجنازة. مجتمع الرجال من جديد، والخوري والوجهـاء والعائلة. وفي الظلّ عينان تبكيان: «هذه قصتي لن أسمح لأحد بأن يسرقها منّي». لحظة. من أين جاء البكـــاء؟ كنا نحكي عن الحبّ!
الصالون الذي يطيب فيه السهر ما زال على حاله. هجرته صاحبته ربّما. لكن الحكاية هنا، والسهرة مستمرّة. كنا نتهيّأ للانتقال إلى المائدة، حيث تنتظرنا السمكة (الشهيرة) بالفرن. فجأة لا أعرف ماذا عنّّ ببال صديقتنا منى حسن. حزرنا أغنية فايزة أحمد من المقدّمة الموسيقيّة. وقف أبو الزوز وبدأ يتهادى: «يا ست الحبايب يا حبيبة/ يا أغلى من روحي ودمي/ يا حنيّنة وكلك طيبة/ يا رب يخليكي يا أمي...». تذكّرت سؤاله في باريس قبل عشرين سنة عن الحبّ. تذكّرت اشياء كثيرة. أعتقد أنني أعرف تلك المرأة التي يغمض عينيه ويغني لها. ربّما هو لا يعرف. لكن جوزف لم يعشق سوى امرأة واحدة: أمّه سيسيليا.