للزجل، في بدادون، مكانة غالية في قلوب أهلها. في منازلهم ومحالّهم وصالون كنيستهم، أو تحت أشجار الجنارك التي تشتهر بها، تصدح من دون انقطاع أبيات حفظوها تعود لكبار الزجّالين، وأخرى جاءت وليدة الارتجال في جلساتهم وسهراتهم.«أنا يا منبر بدادون منّي
غريب عنك تنال التمنّي
روحانا وأسعد الخوري المحنّك
وعلي عملوك جنة بقلب جنة»
تختصر هذه الأبيات للشاعر روكز خليل روكز علاقة بدادون بالزجل والتي تستند إلى تاريخ عريق. فالشاعر الراحل أسعد الفغالي الملقب بـ»شحرور الوادي»، مؤسس المنبر الزجلي، ولد في بدادون ودفن فيها، وهذا ما وضع على كاهل أهالي البلدة مسؤولية حفظ تراثه الزجلي.

وهم لا يملّون من ترداد القصص التي تشير الى موهبته وإبداعه وسرعة بديهته وقدرته على الارتجال، ومنها سجال طريف جرى بينه وبين أحد أصدقائه الذي مازحه قائلاً:
صرلي سبع تمان شهور
قاعد بالضيعة ناطور
فاتح ديك البارودة
ناطر تيمرّ الشحرور
فارتجل الفغالي رداً سريعاً:
بدك شحرور الوادي
يمّا شحرور الغادي
شحرور لفكرك منو
حارق قلب الصيادي.
في ساحة الضيعة، يكفي أن يطلق أحدهم بيت زجل حتى تفتح شهية آخرين على الرد بأبيات مقابلة، لينطلق التحدي بين أبناء بدادون الذين يجمعهم حب الزجل على اختلاف أعمارهم ومهنهم.
على جدران البلدات المجاورة، تنتشر الملصقات والإعلانات عن حفلات الزجل. تختلف أسماء الجوقات والأزمنة، لكن الثابت الوحيد فيها هو المكان. فبدادون، بلدة الفنانة الراحلة صباح، حاضرة دائماً للاستضافة. رئيس «لجنة إحياء التراث في بدادون» الياس الحويك يؤكد أن بلدته تستضيف أكبر عدد من حفلات الزجل في لبنان بمعدل 6 حفلات سنوياً، يشارك فيها كبار شعراء الزجل في لبنان وسوريا، فضلاً عن عشرات الحفلات الارتجالية التي ينظمها محبو الزجل وهواته في ربوع البلدة. ويعزو الحويك ذلك إلى أن منطقة بدادون والجوار «ولّادة للمواهب الزجلية.

تستضيف أكبر
عدد من حفلات الزجل في لبنان بمعدل 6 حفلات سنوياً
فشحرور الوادي من بدادون، وعلي الحاج من القماطية، وإميل رزق الله من الكحالة، وأنيس روحانا من وادي شحرور. وهؤلاء تركوا بصمات خالدة في تاريخ الزجل اللبناني». يلفت الى أن البلدة توقفت قسرياً عن إحياء الحفلات خلال الحرب الأهلية، لتعود فور انتهائها الى تنظيم التحديات الزجلية بزخم أكبر. «ففي حفلة عام 2001 التي شارك فيها الشاعران زغلول الدامور وموسى زغيب، فاق الحضور الخمسة آلاف شخص قدموا من مختلف المناطق، وهو رقم كبير نسبة إلى مساحة القرية وعدد سكانها». حالياً، «تستقطب حفلة الزجل نحو ألف شخص. والشعراء يرغبون دائماً في المشاركة في حفلات بدادون لثقتهم بنجاحها، بسبب الأجواء الحماسية التي تعمّها، ولتمتع روادها بمعرفة عميقة بأصول الزجل من دون تحيزهم مسبقاً لشاعر دون آخر». ويؤكد الحويك أن تنظيم حفلة زجل «ليس أمراً سهلاً ويكلّف عشرات آلاف الدولارات للتعاقد مع شعراء محترفين وتجهيز مكان يتسع لأعداد غفيرة، فضلاً عن العشاء القروي والصوتيات والإعلانات».
حفلات بدادون تميّزها الأجواء الحماسية وتخضع لأعراف ثابتة: يصعد الشعراء إلى المنبر ووراءهم «الردّادة». بعد الترحيب، تنطلق المعركة التي يطوّع فيها الشعراء كل الكلمات والمعاني، ويستخدمون أوزان الزجل المختلفة كالشروقي والمعنّى والقرّادي وغيرها، لإبراز مواهبهم، والتبخيس من شأن خصومهم كما تقتضي أصول «اللعبة». ومع توالي الأبيات يزداد تفاعل الجمهور، فمنهم من ينهض من كرسيه مصفقاً، ومنهم من يقاطع الزجالة صارخاً «عيدها» تعبيراً عن الإعجاب الشديد، وهو طلب لا يتوانى الشعراء عن تلبيته أبداً.
يفخر أبناء بدادون بأنهم يساهمون في المحافظة على التراث من خلال اهتمامهم بالزجل الذي تحوّل من مجرد هواية إلى هوية وبصمة تميز البلدة عن غيرها من القرى اللبنانية. وهم، إلى الزجل، متمسكون بالطابع القروي لبلدتهم من القرميد الأحمر والحجر الصخري والحارات الضيقة، الى اللهجة الجبلية التي لم تبدّلها السنوات.




أهلا وسهلا بطه حسين

ولد أسعد الفغالي (عمّ الفنانة الراحلة صباح) في بدادون عام 1894. ورث عن أبيه الخوري لويس الفغالي موهبة الزجل. ومع اتجاه الوالد نحو الحياة الكنسية وانقطاعه عن الزجل، أكمل «شحرور الوادي» المسيرة، وبات، رغم حياته القصيرة (توفي عام 1937)، من عمالقة شعراء الزجل اللبناني. أسّس أول جوقة زجلية عام 1928 مع الشعراء: علي الحاج وأنيس روحانا وطانيوس عبده، لتكرّ بعدها سبحة الجوقات مع زغلول الدامور وخليل روكز وغيرهما. اشتهر «شحرور الوادي» بموهبته الفذة وصوته الجميل وسرعة بديهته، وذاع صيته محلياً وخارجياً، إذ أحيا في مصر حفلات لاقت نجاحاً كبيراً. ويُنقل في هذا السياق أن الأديب المصري طه حسين حضر حفلة مصر. ومع دخوله القاعة، بعد بدء الحفلة، ارتجل شحرور الوادي مرحّباً:
أهلا وسهلا بطه حسين
ربي أعطاني عينين
العين الوحدة بتكفيني
خد لك عين وخلّي عين
وأردف الشاعر علي الحاج بدوره:
أهلا وسهلا بطه حسين
بيلزم لك عينين اتنين
تكـرّم شحـرور الوادي
منك عين ومني عين
وعندما علت الابتسامة وجه حسين، تلقف المبادرة الشاعر أنيس روحانا قائلاً:
لا تقبل يا طه حسيـن
من كل واحد تاخد عين
بقدّم لـك جوز عيوني
هدية لا قرضة ولا دين
وكان مسك الختام مع الشاعر طانيوس عبده:
ما بيلزملو طه حسين
عين ولا أكثر من عين
الله اختصّه بعين العقل
بيقشع فيها عالميليـن