«بلاج ومطعم خيزران الكبير يرحب بكم». تحت العبارة المنقوشة على رخامة، ثُبّتت لائحة الأطعمة والمشروبات: «أسماك طازجة، لحومات، مازات، ويسكي أسود وأحمر، عرق عادي وإكسترا، بيرة أجنبية ووطنية...». الغبار غطّى بعض كلمات «المينيو»، وغيّب ملامح الأرضية والنوافذ الزجاجية والستائر الكحلية والصفراء المتدلية في الزوايا.
وحدها لوحة ذات ألوان فرحة، رسمت في جزء من السقف، بقيت بمنأى. ما لم يفعله الغبار، أتى عليه الزجاج المتشظي من بعض النوافذ والأبواب. الصور المغبّرة، المعلقة على جدران الصالة الواسعة، من زمن آخر تظهر فيها طاولات مكتظة بالزبائن، و»كابينات» للسابحين في طبقته السفلية. الطاولات متهالكة فيما أبواب «الكابينات» صدئة. أصحاب المطعم هجروه منذ زمن. أحد رموز خيزران يعكس حال السياحة في المنطقة التي شهدت عصراً ذهبياً أفل منذ سنوات.
في محاذاة خط قطار سكة الحديد، تمددت مقاهي خيزران بدءاً من منتصف القرن العشرين. وكحال السكة بعد عقود، اندثر بعضها وهُجر، فيما أتى التمدد العمراني العشوائي على بعضها الآخر. عدد قليل منها صمد بعد تفرّق العشاق. صمود فتح شهية زملاء «الكار» المعتكفين لإحياء أمجاد الأجداد.

منذ الخمسينيات جذبت خيزران روّاد البحر ومحبي السمك الطازج من مناطق بعيدة

خيزران هي الواجهة الساحلية لبلدة السكسكية (قضاء الزهراني). منذ الخمسينيات، جذبت روّاد البحر ومحبي «لقمة» السمك الطازج من مناطق بعيدة. الإزدهار الذي نعمت به قبل اندلاع الحرب الأهلية، وسّع مساحة الإستثمارات السياحية شمالاً وجنوباً. حتى بات يطلق اسم «بحر خيزران»، اصطلاحاً، على الساحل الممتد من العاقبية (البيسارية) حتى عدلون مروراً بالصرفند وأنصارية.
يروي محمود فقيه، حفيد أحمد فقيه الذي شيد «مطعم خيزران الكبير» منتصف القرن الماضي، «قصة خيزران» تعود إلى بداية الأربعينيات من القرن الماضي، حين تمركز 18 ألف جندي إنكليزي في المنطقة الممتدة من مفترق السكسكية الى العاقبية. أحمد فقيه ويوسف سبليني بادرا إلى بيع الجنود قوارير المياه والمشروبات. لاحقاً، ثبّت الرجلان نقاط بيع تحولت إلى «قهوة» صغيرة. إقبال الناس عليها لعدم توافر سواها، صنف المنطقة «استراحة» بين بيروت وفلسطين. التجار القادمون من فلسطين الى بيروت وبالعكس، صاروا يتخذونها استراحة للخيل. «كان لعربات الخيل اصطبل خاص وكان المسافرون يتوقفون للإستراحة قبل أن يكملوا سفرهم نحو بيروت أو فلسطين»، يقول فقيه. بعد افتتاح سكة الحديد، شكلت محطة القطار التي افتتحت في سهل عدلون المجاور، عاملاً إضافياً قاد الزوار إلى خيزران للراحة. «كانت هناك سيارتا أجرة من نوع (دودج). واحدة تأتي من جهة فلسطين والأخرى من طرابلس، يتبادلان ركابهما عندنا. إضافة إلى بوسطة واحدة، شكلت خيزران إحدى محطاتها».
وفي لائحة عوامل الجذب لقصد خيزران، صيد العصافير في بساتين أنصارية والسكسكية. الصيادون «البيارتة» كانوا يصطحبون عائلاتهم ليمضوا نهارهم على الشاطئ. وكانت للسياح العرب حصة أيضاً، إذ كانوا يقصدون شاطئ خيزران من أماكن اصطيافهم في بحمدون وعاليه. ما قبل نكبة فلسطين عام 1948 وما بعدها من أحداث أمنية وسياسية شهدتها المنطقة حتى وصول قوات الأمم المتحدة عام 1978، حملت شخصيات أجنبية لزيارة الجنوب. كثر منهم مروا من هنا.
بحسب فقيه، شجعت تلك الحركة على توسعة «قهوة» فقيه وسبليني لتصبح مطعمين كبيرين. حذا حذوهما آخرون، حتى بلغ عدد مقاهي المنطقة نحو عشرين. نجاح التجربة وتحول «خيزران» وآل فقيه وسبليني إلى «ماركة مسجلة».
أفنى أبو حسين سبليني عمره في مقهى «سبليني» الذي ورثه عن والده. عميد أصحاب المقاهي (81 عاماً) واحد من أيقونات المنطقة. لم يتعب من أن يهب من كرسيه كلما وصل زبون. مرتدياً البنطال الأسود والقميص الأبيض، يرحب بالقادمين بحرارة ويصطحبهم إلى الطاولة ويسجل في ذاكرته طلباتهم. مقهى سبليني كان خيمة قصب صغيرة، تحولت إلى مطعم ذائع الصيت. يقول إن «أهمية خيزران ارتكزت على تقديمها خدمات سياحية متقدمة في ذلك الزمان». ويضيف: «في الخمسينيات، من بيروت إلى الناقورة، لم يكن هناك مكان يقدم ولو شربة ماء، سوى دكانة أم علي كاعين عند مفترق الغازية، ونحن في خيزران». يستطرد: «صور المدينة لم تكن موجودة، كانت مجرد بلدة عادية. في عهد (الرئيس كميل) شمعون كانت خيزران متنفس السواح. كان الناس يأتون من حيفا ويافا في فلسطين ومن طرابلس».
تحفظ ذاكرته أحداثاً مهمة. «صباح ووديع الصافي وأم كلثوم (...) تعرفهم خيزران ويعرفونها. ومن السياسيين كميل شمعون وأحمد بيك الأسعد وعادل بيك عسيران ورشيد كرامي ورفيق الحريري الذي تملك عقارات واسعة في المنطقة. مع الإجتياح الإسرائيلي عام 1982، تعرض المطعم للتخريب وسرقت محتوياته، وأهمها «البوم» صور يوثق أبرز الولائم والشخصيات التي زارته.

منذ السادسة من عمره، خبر فقيه الوقوف ساعات للإشراف على راحة الزبون. تنقل في مهمات عدة، من «وضع النارة (الجمر) على النراجيل إلى تقديم الطعام وتوضيب الموائد والمساعدة في المطبخ وصولاً إلى امتلاك مطعم والإشراف على كل تلك التفاصيل. «ليس هيناً أن تعرف السمكة الزكية من غيرها، وأن تفقه معاملة الزبون وكرم المطبخ وحسن الإستقبال» يقول فقيه.
«هذا المجال يعود عليك بالعلاقات الواسعة مع شخصيات معروفة. أنا درست البشر وكنت أفك حبل المشنقة» يقول السبليني. فقيه هو الآخر يقدر هذه العلاقات التي تستمر لأجيال. «من كان يأتي صغيراً مع عائلته من بيروت او البترون او جبيل قبل الحرب الأهلية، عاد وقد صار رب أسرة.
20 في المئة من زبائن والدي أصبحوا زبائني».
لكن زمن الأول تحول. خيزران صمدت رغم كل الحروب والأزمات التي مرت على لبنان والجنوب خصوصاً، لكن عوامل أخرى أدت إلى انكماش الحركة فيها. تحويل السير الى الطريق السريع بعد أن كانت الطريق البحرية القديمة تمر من أمام هذه المقاهي وانتشار المطاعم ومنافسة صور، كلها أدت إلى انطفاء جذوة خيزران. للكحول أيضاً صلة. كانت خيزران سباقة بتقديمها. في السنوات الأخيرة، تغير المزاج العام. توقف معظم أصحاب الإستراحات عن تقديمها (بشكل علني على الأقل). كثر من الزبائن من خارج المنطقة تحولوا عنها. فيما أهل المنطقة لم يقربوها بسبب صيت «المنكر» الملتصق بها.
يبقي أبو حسين على المطعم «فقط لأجل اسم الوالد، إلا لا مردود مالياً يستحق. هيديك الأيام ما بترجع». نجله الوحيد يقيم في الخارج. أما فقيه فاختار لأولاده مهنة غير «هذه المهنة المتعبة».
في السنوات الأخيرة، حاول البعض إعادة تشغيل المطاعم المهجورة أو افتتاح مقاه حديثة، لكن خيم القرميد وأرضية البلاط لم تنجح في استعادة الزبائن الذين كانت تكفيهم خيمة القصب وأرضية الرمل أو الإسمنت.