لم تَسعَ واشنطن يوماً لتسوية القضية الفلسطينية لا وجود لصفقة القرن ولم تعد «الدولة» مطروحة للتفاوض
قرار ترامب الانسحاب من سوريا بلا اعتبارات استراتيجية


لقد تعرّض الفلسطينيون لعملية خداع مديدة من قِبَل الإدارات الأميركية المتعاقبة. توصّل سيث أنزيسكا، أستاذ التاريخ في جامعة لندن، إلى هذه الخلاصة بعد مسيرة بحثية امتزجت فيها الدوافع العلمية بتلك الشخصية. فأنزيسكا، الأميركي المولد، ترعرع وسط عائلة يهودية متدينة وصهيونية ملتزمة، غرست في نفسه تعلّقاً دينياً وروحانياً بـ«أرض الميعاد»، والتحق بعد نهاية دراسته الثانوية بالمدرسة الدينية في مستوطنة غوش لتزيون لمدة سنة. خلال هذه السنة، اكتشف أنزيسكا الفلسطينيين ومعاناتهم المريرة. التصوّرات المثالية عن إسرائيل التوراتية التي تبلورت لديه في الولايات المتحدة تبدّدت تدريجياً أمام واقع الاحتلال. «كيف لا نرى الفلسطينيين ومعاناتهم؟». لم تعد التفسيرات المنطلقة من «الضرورات الأمنية» مقنعة بالنسبة إليه. «عندما أستذكر اليوم تسلسل الأحداث، يزداد اقتناعي بأن الشكوك التي أيقظها العيش لمدة سنة في غوش لتزيون شكّلت دافعاً قوياً لديّ للبحث في الجذور التاريخية لقيام إسرائيل، وفي مسبّبات تغييب فلسطين»، كما يقول في مقابلة مع «الأخبار».
لم يكن «حلّ» القضية الفلسطينية وارداً بالنسبة إلى هؤلاء يوماً، بل العمل على تصفيتها على المدى الطويل. عملية السلام كانت منذ انطلاقتها عملية خداع برأي أنزيسكا: «إذا عدنا إلى سياق ما بعد حرب 1973، وخطاب ياسر عرفات في الأمم المتحدة عام 1974، واكتساب القضية الفلسطينية بعداً دولياً، والتحوّلات التي طرأت على استراتيجية الحركة الوطنية الفلسطينية، جميعها تطوّرات ساهمت في فتح نافذة لحلّ دبلوماسي للصراع... إعلان البندقية حول حلّ سياسي للصراع العربي ــــ الإسرائيلي، الصادر عن الدول الأوروبية عام 1980، مثال على ذلك. الرئيس جيمي كارتر، عندما وصل إلى السلطة سنة 1977، كانت لديه نية جدية في السعي لإشراك الفلسطينيين في عملية التسوية. لم يسمح هذا السعي بالوصول إلى النتيجة المرجوة لسببين: الأول هو نجاح كيسنجر في فرض الحظر على أيّ اتصال بمنظمة التحرير عام 1975، وأظن أن تحوّل عملية التسوية إلى عملية خداع للفلسطينيين هي من ثمرات قرار كيسنجر. وإذا عدنا إلى أبحاث سليم يعقوب، أستاذ التاريخ في جامعة كاليفورنيا، فسنجد أن الغاية الرئيسية لدبلوماسية الظلّ التي اعتمدها كيسنجر بعد حرب 1973 كانت الحؤول دون أي حل للقضية الفلسطينية. باتت هذه المقاربة، أي تجاهل القضية الفلسطينية، في صلب الاستراتيجية الدبلوماسية الأميركية في الفترة اللاحقة. حاول كارتر كسر الحظر الذي فرضه كيسنجر. هذا ما يفسّر التوسّط السري الذي قام به وليد الخالدي مع منظمة التحرير في السعودية عام 1977، ومحاولة إقناعها بالموافقة على القرار 242. شهدنا محاولة جدّية للاتّصال بالمنظمة تمّت عرقلتها من خلال وثيقة كيسنجر، وبفعل عوامل سياسية داخلية في الولايات المتحدة. لم يستطع كارتر تجاوز عداء الجالية اليهودية للمنظمة وللفلسطينيين بشكل عام، وواجه معارضة شديدة من قِبَل صقور الحرب الباردة. كان هؤلاء رافضين تماماً لأي كلام عن حق تقرير المصير للفلسطينيين، ويريدون العودة إلى سياسات أكثر حزماً تجاه الاتحاد السوفياتي.
التقيت وزير الخارجية العماني، وما سمعت منه عن التطبيع أمر مذهل


السبب الثاني مرتبط بالصراعات بين العرب، واستعداد السادات لتقديم تنازلات جوهرية في الموضوع الفلسطيني... إذا عدنا إلى الوثائق، فإن حديث السادات عن الفلسطينيين في جلساته الخاصة، ونظرته لعرفات باعتباره مجرد أداة سوفياتية، يظهران أن القضية الفلسطينية لم تكن تعني له الكثير، وأن أولوياته داخلية مصرية. أوضاع بلاده الاقتصادية كانت صعبة للغاية، والحصول على استثمارات أميركية كان مسألة حيوية. اضطر كارتر إلى أخذ هذه المعطيات بعين الاعتبار ومراجعة حساباته. ومنذ ذلك التاريخ، أصبحنا أمام عملية تسوية لا شأن لها بالتطلعات الأساسية للشعب الفلسطيني، بل تهدف الى تحقيق غايات سياسية أخرى؛ بينها تقديم الولايات المتحدة على أنها وسيط نزيه. وقد ساءت الأمور بشكل ملحوظ مع وصول (الرئيس الأميركي رونالد) ريغان إلى السلطة، والذي كان يعتبر الفلسطينيين مجرد وكلاء للسوفيات. اضطر ريغان الى تعديل مقاربته مع انطلاق الانتفاضة الأولى. المباشرة الأميركية للحوار مع منظمة التحرير عام 1988 كانت نوعاً من الإقرار بضرورة التعامل سياسياً مع الفلسطينيين. ما أشرحه في الكتاب هو أن الفترة الممتدة بين محاولة كارتر الأولى وأواخر الثمانينيات، المعطى المستجدّ على الأرض فيها هو توسّع الاستيطان في أنحاء الأراضي المحتلة. استراتيجية إسرائيل زاوجت ما بين العمل على القضاء على فكرة حق الشعب الفلسطيني في تقرير المصير على المستوى السياسي عبر كامب ديفيد، ومن ثم اجتياح لبنان عام 1982 لتدمير منظمة التحرير من جهة، وعبر خلق وقائع على الأرض من خلال الاستيطان من جهة أخرى».
بعد نهاية الثنائية القطبية والانتصار المدوّي للولايات المتحدة، ساد اعتقاد بأن تسوية القضية الفلسطينية من مصلحتها لترسيخ هيمنتها على المنطقة. «انتشر هذا الاعتقاد بالفعل بعد حرب الكويت، ولكن لم يكن قيام دولة فلسطينية مستقلّة ضرورياً بالنسبة إلى بوش الأب أو لبقية المسؤولين الأميركيين. هذا هو لبّ الموضوع عند الحديث عن تسوية للقضية، ولكن بعضهم يعتقد أن الحل ممكن عبر إنشاء كانتونات أو عبر مبادرات اقتصادية كما يجري الحديث حالياً أو عبر كونفدرالية مع الأردن... صحيح أن الأميركيين، بعد نهاية الثنائية القطبية، بات لديهم دور حيوي في العملية التفاوضية، لكن هذا الدور لم يقطع مع الثوابت التي بدأ على أساسها في السبعينيات. وقد ساهم ضعف رد الفعل العربي والتعامل مع الولايات المتحدة وكأنها وسيط نزيه في استمرار هذه السياسة. إذا نظرنا إلى ما يجري اليوم، نرى اعترافاً أميركياً بالقدس كعاصمة لإسرائيل، ووقف تمويل الأونروا لتصفية قضية اللاجئين، والعودة إلى فكرة السلام الاقتصادي التي يتحدث عنها ترامب وكوشنير، بالتزامن مع تحوّل جذري في السياسات العربية. التقيت أخيراً وزير خارجية عُمان، وما سمعته منه عن التطبيع وعن علاقاتهم مع الإسرائيليين أمر مذهل. لم أسمع خطاباً مشابهاً من أطراف عربية في السابق. كيف يتمّ التطبيع مع إسرائيل من دون أيّ ثمن سياسي في المقابل؟ منذ عام 2011، ذهبت أطراف عربية بعيداً في ميدان التطبيع... وما ينطبق على عمان ينطبق على الإمارات والسعودية. نحن اليوم أمام مقاربات ساداتية بكل ما للكلمة من معنى، تختار وفقها بعض الأنظمة إعطاء الأولوية المطلقة لمصالحها الآنية على حساب القضية الفلسطينية».
في سياق كهذا، ما هو مضمون صفقة القرن وما هي وظيفتها؟ «لا وجود لصفقة القرن. منطق هذه الصفقة المزعومة هو إياه منطق الحكم الذاتي الذي طرح في السبعينيات، ويقوم على منح الفلسطينيين كانتونات صغيرة ومبعثرة من دون أيّ سيادة، تعتاش على مبادرات اقتصادية لتنمية نخبة مرتبطة بالخارج في ظلّ بقاء المستوطنات والسيطرة الأمنية للإسرائيليين. لم تعد الدولة الفلسطينية مطروحة كموضوع قابل للتفاوض... بالطبع، للإعلان عن هذه الصفقة وظيفة إقليمية مرتبطة بالصراع مع إيران، وبمحاولة إنشاء تحالف إقليمي لمواجهتها. لكن الأمر اللافت في الأيام الأخيرة، بعد الإعلان عن قرار الانسحاب الأميركي من سوريا، هو غضب الحكومة الإسرائيلية الشديد بسببه. هذا القرار وما يشي به من رغبة أميركية بالانسحاب، على الأقل عسكرياً، من الشرق الأوسط مقلق جداً بالنسبة الى الحكومة الإسرائيلية. بعد القرار، نشر مارتين أنديك تغريدة على تويتر يرى فيها أن السؤال الذي يمكن أن يُطرح أميركياً هو: ما الذي نحصل عليه من إسرائيل في مقابل الدعم الذي نقدمه لها؟ منطق ترامب الذي يستند إلى مقولة تبادل المنافع قد يفضي إلى طرح سؤال كهذا، يقطع مع الإجماع الذي ساد في النخبة السياسية الأميركية حيال العلاقة مع إسرائيل والدعم الهائل وغير المشروط الذي يقدم لها. نقطة أخرى ينبغي الإشارة إليها وهي الموقف من السعودية. ترامب ذهب في حمايته لابن سلمان إلى أبعد الحدود، لكننا شهدنا نهاية للإجماع التقليدي على تأييد سياسات المملكة في داخل المؤسسات الأميركية... أظن أن الكونغرس عندما سيعود للاجتماع في شهر كانون الثاني/ يناير المقبل مع نوابه الجدد، سنسمع أصواتاً داخله تتساءل عن مغزى الاستمرار بدعم حكومة نتنياهو المتحالف مع قوى اليمين المتشدّد في المجر والبرازيل والولايات المتحدة نفسها».
يستبعد كثيرون في منطقتنا أن يكون قرار الانسحاب الأميركي من سوريا لم يأخذ بالحسبان الاعتبارات الاستراتيجية الأميركية. لكن، «ليس لدى ترامب تفكير استراتيجي. هو انفعالي ويتصرّف انطلاقاً من الانفعال وردة الفعل كالأطفال، بالإضافة إلى حساب الأكلاف المالية ولرغبته الدائمة في إرضاء ناخبيه عبر الإيفاء بالوعود التي قطعها أمامهم. هو لا يأبه بالتداعيات الاستراتيجية لقراره، وهذا ما دفع ماتيس إلى الاستقالة. لديه خطاب معادٍ للصين، لكنه لا يستند إلى رؤية واضحة حول كيفية مواجهتها، بل إلى أفكار وشعارات عامة».