صراع على «كنوزه» يهدد بحرب
ربى أبو عمو
انتهت الولايات المتحدة من كوكب الأرض. جمعت موارده النفطية وغير النفطية في سلّتها الخاصة. بدأت البحث في كوكب آخر عمّا يستحق «النهب» أيضاً، ووقع الاختيار على غابة باندورا. سارعت بداية إلى استمالة شعبها قبل اللجوء إلى الخيار العسكري للسيطرة على ثرواتها من المعادن المشعة. هذه الحكاية جسّدها فيلم «أفاتار» للمخرج الكندي جايمس كاميرون، الذي سعى إلى تمثيل مفهوم الدول الاستعمارية الساعية إلى الحصول على ثروات العالم بشتى الطرق، مستنداً إلى الخيال العلمي وأميركا.
صحيح أن غابة باندورا هذه تنتمي إلى خيال المخرج، إلّا أنها قد تجسّد مكاناً آخر في كوكب الأرض، غير آهل بالسكان، هو القطب الشمالي. تصلح أميركا لتكون المثال الأبرز للدول الساعية إلى التحكم بثروات غيرها، لتحافظ على ريادتها العالمية اقتصادياً وعسكرياً. إلّا أنها ليست الوحيدة، وإن كانت ربما الأولى في عدد الحروب التي خاضتها لتحقيق هذا الهدف.
فإلى جانب الولايات المتحدة، أدركت الدول المتاخمة للقطب، وهي روسيا وكندا والدنمارك والنروج، أهمية هذه المنطقة منذ فترة الحرب الباردة. أهميةٌ تكرست مع اشتداد ظاهرة الاحتباس الحراري وذوبان الجليد تدريجاً، في ظل فشل الدول في الحد من الانبعاثات التي تزيد من خطورة هذه الظاهرة. ومع تسارع عملية الذوبان، قدرت هيئة المسح الأيكولوجي الأميركية أن «القطب الشمالي يحتوي على أكثر من 90 مليار برميل من النفط الخام (13 في المئة من احتياطات النفط العالمي التي لم تستكشف بعد)، ونحو 47.3 تريليون سنتيمتر مكعب من الغاز الطبيعي (30 في المئة من احتياطات الغاز العالمي التي لم تستكشف بعد)، ونحو 20 في المئة من الغاز الطبيعي السائل.
وتقول بعض التقديرات الأميركية إن «إمكان إنتاج نصف هذه الكمية يكفي الطلب العالمي كله لمدة سنة وأربعة أشهر، ويكفي حاجات الولايات المتحدة من الطاقة لمدة ست سنوات». وإضافة إلى هذه الثروات، سيتيح انحسار الجليد ظهور طرق ملاحية جديدة في المنطقة، أهمها الممر الملاحي بين الشمال والجنوب، الذي يربط قارتي آسيا وأوروبا عبر مسافة قصيرة.
هذه الموارد فتحت باب الصراع بين الدول، حتى بات القطب أشبه بالكنز الذي تتسابق عليه العصابات، فتحاول تدمير بعضها للتفرد به في نهاية الرحلة. وبالطبع، لا يلجأ الخبراء إلى الدعابة في وصف السباق إلى القطب، الذي يرونه منطقة «حرب باردة جديدة»، وخصوصاً أن طرفي هذه الحرب التي استمرت لسنوات بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية، هما المتسابقان الأبرز نحو استملاك هذه المنطقة.
السباق القائم يجري رغم التقسيم القانوني لأنصبة كل واحدة من الدول الخمس (أميركا وروسيا وكندا والدنمارك والنروج) في القطب الشمالي. فاتفاقية الأمم المتحدة لعام 1982، حددت حق استغلال القطب لخمس دول فقط. ونصت على حق كل دولة في السيطرة على مساحة من الجرف القاري تبدأ من سواحل هذه الدول إلى مسافة مئتي ميل بحري في عمق المحيط. وتُعَدّ المساحة الباقية ملكاً للبشرية جمعاء.
لكن، لأن العلاقة بين روسيا والولايات المتحدة تبقى امتداداً لحرب باردة انتهت، تبرز الدراسات الصراع بين هاتين الدولتين على القطب، وكأن باقي الدول ليست سوى أسماك صغيرة يمكن إرضاؤها.
بالنسبة إلى أميركا، فقد اكتسب القطب أهميته الاستراتيجية بعد شرائها منطقة ألاسكا (القطبية) من روسيا عام 1867. أهميّة لم تدم طويلاً بعدما غلبت عليها اعتبارات الأمن القومي حتى نهاية الحرب الباردة. وفي عام 1991، شاركت واشنطن الدول القطبية في تأسيس استراتيجية حماية البيئة في القطب، رغم أنها لم توقّع اتفاقية الأمم المتحدة لعام 1982 التي قسمت الحصص في القطب، ما يعني أنها لا تتمتع بـ«وضع قانوني» يخولها مراجعة المحكمة الدولية للحقوق البحرية التي تنظر في النزاعات والخلافات الإقليمية.
وحاولت مديرة مكتب شؤون المحيطات في الولايات المتحدة مارغريت هايز تفسير الاستراتيجية الأميركية حيال القطب. قالت إن «واشنطن أحدثت تغييرات جوهرية في سياستها حيال القطب منذ نحو عام ونصف. وقد أقدمت في عام 2007 على مراجعة شاملة لأولوياتها في هذه المنطقة، حيث لم تعد قضية الأمن وحدها هي المسيطرة على السياسة الأميركية بعد نهاية الحرب الباردة».
سعت الولايات المتحدة إلى تثبيت حقوقها في القطب من خلال تعزيز وجودها في حدود 200 ميل بحري للجزء الشمالي من بحر تشوكشي، بهدف الاستكشاف والتنقيب عن مصادر الطاقة. وتجدر الإشارة إلى أن تحركها الفعلي لم يبدأ خلال العامين الأخيرين، إذ أنفقت أكثر من 360 مليون دولار سنوياً منذ عام 2003 على الجهود العلمية والبحثية في القطب الشمالي.
وتشير دراسة أعدتها مجموعة من الباحثين الغربيين، منهم الباحث الأول في مركز دراسات روسيا وأوراسيا أرئيل كوهين، إلى أن «الولايات المتحدة تتمتع بسيادة كاملة على أراضيها في القطب الشمالي، وفقاً لمبدأ الرئيس هاري ترومان، الذي أعلن أن الهيدروكربون وأي موارد طبيعية قد تكتشف في الجرف القاري الأميركي تعد ملكاً خاصّاً لبلاده»، ما يعني أن واشنطن سنّت قانونها الخاص.
روسيا، من جهتها، سعت إلى اثبات حقها في امتداد جرفها القاري إلى مسافة أكبر من مئتي ميل بحري، استناداً إلى الاتفاقية الدولية لقانون البحار لعام 1997، التي تمنح الدول هذا الحق إذا أثبتت اتصال جرفها القاري بالأراضي الأخرى. وسعت موسكو من خلال هذه الاتفاقية إلى إثبات حقها في سلسلة جبال «لومونو سولفومندلييف» الواقعة في قعر المحيط المتجمد، مبينة أنها تمر عبر الأراضي الروسية. وأكد علماء روس أن هذه السلسلة هي امتداد للهضبة القارية في سيبيريا، وهي غير معزولة بأي شكل من الأشكال عن الأراضي الروسية.
إلا أن هذه السلسلة كانت مثاراً للجدال، إذ تدعي كندا أن «لومونو سولفومندلييف» تبدأ من ساحل أميركا الشمالية، فيما خصصت وزارة العلوم الدنماركية 38 مليون دولار لرسم خرائط الجرف القاري بهدف إقناع المتخصصين بأن هذه الجبال هي استمرار طبيعي لجزيرة غرينلاند التابعة لها.
في عام 2001، طالبت روسيا اللجنة المعنية بالحدود البحرية في الأمم المتحدة بحقها في امتداد جرفها القاري في القطب الشمالي، مرفقة طلبها بأدلة وبراهين لم تقتنع بها اللجنة، فسألت موسكو المزيد. هذه الأخيرة كررت عمليات تنقيبها وبحثها في القطب، وصولاً إلى وضعها العلم الروسي في كبسولة بلاستيكية في قعر المحيط في عام 2007. حينها، واجهت روسيا الانتقادات الغربية بلغة حاسمة، وقال وزير خارجيتها سيرغي لافروف إن «من يملك حقاً، عليه أن يملك القدرة على إثبات هذا الحق. وإن من يستطيع الوصول إلى النقطة التي وصلنا إليها في قعر القطب، فليصل، وليضع علمه بجوار علمنا هناك، وليجتهد في إثبات حقه بالبراهين والأدلة العلمية مثلما نفعل».
بعدها، أقر مجلس الأمن لروسيا الاتحادية في 17 أيلول الماضي مبادئ سياسة الدولة في القطب حتى عام 2020، وصدّق على خطة الإجراءات الرامية إلى تنفيذها. وأعلن الرئيس ديمتري مدفيديف أن «استخدام موارد منطقة القطب الشمالي هو ضمانة لأمن روسيا في مجال الطاقة»، مضيفاً أن «الجرف القاري لمنطقة القطب قد يحتوي على نحو ربع جميع احتياطات الهيدروكربون في العالم». وأكد أن هذه المنطقة «ذات معنى استراتيجي لروسيا لأن قدرة البلاد التنافسية في الأسواق العالمية ترتبط مباشرة بإمكان استخدام الطرف الروسي موارد هذا الإقليم».
لا شكّ في أن محاولة الدول القطبية الالتفاف على القوانين الدولية، والتمادي في تطوير الأساليب التي تكفل لها السيطرة على هذه المنطقة، قد تصطدم بمجموع المصالح المتشابكة. فروسيا تسيطر اليوم على مصادر الطاقة التي توزع إلى أوروبا.
وضمان هذه الاستمرارية يحتم عليها إيجاد بديل حين تتقلص احتياطاتها النفطية. أما الولايات المتحدة، فهي إلى جانب احتياطاتها وتحالفاتها السياسية والعسكرية، تحتاج إلى توفير احتياجاتها للمستقبل. أمر برهنه الرئيس الأميركي السابق بيل كلينتون في عام 1999، حين قال إن «تحقيق الرفاهية في الداخل يعتمد على تحقيق الاستقرار في مناطق حيوية من العالم، نمارس معها التجارة أو نستورد منها السلع المهمة مثل البترول والغاز الطبيعي». فكرة تنطبق، وإن بقدرة أقل، على باقي الدول القطبية.
فهل يستعد القطب لحرب عالمية؟ رغم التحذير الروسي المستمر، يقول المتخصص في أمن القطب الشمالي روب هوبرت إن «الأوضاع في القطب لم تسؤ بعد إلى النقطة التي تعجز خلالها الدول المعنية عن حل مشاكلها. وإذا كان علينا أن ننتظر، فقد يأخذ هذا الصراع لغة أكثر صرامة».
يرتكز هذا التحليل على القوانين الدولية الخاصة بالقطب الشمالي، التي يفترض أن تكون الدول عاجزة عن تجاوزها، إضافة إلى ترجيح الدول خيار المفاوضات حتى اليوم. وعلى سبيل المثال، مثّلت روسيا والنروج في أيلول عام 2006 آلية تفتيش ثنائي لشركات الأسماك النروجية، ووُضعت تدابير فنية موحدة لتنظيم الموارد السمكية المشتركة في بحري بارنس والنروج، ما يسمح بالتنسيق في طرق صيد السمك في هذين البحرين الشماليين. تعاونٌ لا ينفي وجود نزاعات في ترسيم الحدود في المناطق الاقتصادية في منطقة القطب.

يحتوي على أكثر من 90 مليار برميل من النفط الخام ونحو 47.3 تريليون سنتيمتر مكعب من الغاز الطبيعي

الدول الخمس المعنية في الصراع تسعى إلى تعزيز وجودها العسكري في القطب
في المقابل، فإن المتخصص في المسائل السياسية والأمنية للقطب الشمالي، باري زيلين، يشير إلى «نشوء شبكة توزيع للإمدادات العسكرية، وتمكّن حلف شمالي الأطلسي والولايات المتحدة والدول الآسيوية الحليفة من تعزيز قواعدها العسكرية في مناطق القطب البعيدة».
فقد أعلنت كندا عزمها على إنشاء قاعدتين عسكريتين كبيرتين في منطقة القطب، فيما أعربت الولايات المتحدة عن رغبتها في استقدام عدد من كاسحات الجليد وسفن حربية خاصة لتشديد أعمال المراقبة البحرية في المنطقة. أما روسيا، فتملك أكبر أسطول لاختراق الجليد في العالم: 18 سفينة، سبعة منها مزودة بالقدرة النووية. وتسعى إلى بناء كسارات جليد جديدة تعمل بالقوة النووية في عام 2015.
ويقدّر الخبراء أن روسيا تحتاج إلى بناء ما بين 6 إلى 10 كسارات جليد تعمل نووياً في السنوات العشرين المقبلة لحفظ وجودها العملياتي في المناطق التي تدعي ملكيتها في القطب الشمالي.
هي حكاية غابة «باندورا» إذاً تتجسّد في القطب الشمالي. البطل هذه المرة ليس الولايات المتحدة وحدها، بل تنضم إليها روسيا وكندا والنروج والدنمارك، إضافة إلى سلسلة طويلة من الدول غير المتاخمة مباشرة للقطب. انتهى «أفاتار» بتدمير الغابة، أما القطب، فيقف أمام خيارين: اقتسام الثروات أو الحرب.
وما بين هذين الحلين، سيستمر النزاع في الطريق إلى الكنز.
هي حرب باردة بالمفهوم النظري بلا شك. وقد تكون متعددة الأطراف. وكما يقول أستاذ دراسات السلام والأمن في خمس جامعات أميركية، مايكل كلير، إن «العقود الأولى من الألفية الثالثة ستشهد حروباً مختلفة، لا من أجل الإيديولوجيا وكيفية نشرها، بل من أجل السيطرة على الإمدادات التي تتضاءل». فلمن يبتسم القطب؟


علم روسيا

بعدما وضعت بعثة روسية علم بلادها في قعر المحيط المتجمد الشمالي في عام 2007، كتبت صحيفة «الإندبندنت» البريطانية أن هذه الرحلة «تشبه الهبوط على سطح القمر في عام 1969 من حيث الجرأة والقدرات التقنية، مع فارق واحد ومهم: لم يكن على سطح القمر إمكان لاستخراج المعادن، أما في قعر المحيط المتجمد الشمالي، فمن المتوقع أن تكون هناك كميات كبيرة من النفط والغاز».
وأوضحت الصحيفة أن «ارتفاع أسعار النفط والغاز واستنفاد الحقول التقليدية يدفعان الناس إلى التوجه للاستثمار في المناطق البعيدة التي يصعب الوصول إليها». وأضافت: «لا أحد يفكر جدياً في أن العالم يقف على باب حرب جديدة. لكن القلق يظهر بوضوح أكثر وأكثر على خلفية الآثار البيئية جراء سعي روسيا إلى الاستيلاء على موارد الطاقة، ووضع منصات وسط جليد القطب الشمالي الذائب»، مؤكدة أنّ «من مصلحة البشرية أن يبقى القطب الشمالي منطقة الطبيعة البكر».