strong> طوني صغبيني
«لم نظن أن هذا الأمر قد يحدث في كينيا»! هي العبارة الأولى لأحد مواطني نيروبي غداة رؤيته موجة التصفيات القبلية التي اجتاحت ضواحي العاصمة منذ الأحد الماضي. وهي جملة تعبّر عن فرادة الحالة الكينية التي كانت حتّى الأمس القريب، مختلفة عن جوارها الأفريقي المعتاد على مشاهد قطع الرؤوس بالمناجل والإبادات الجماعية.
ورغم أن كينيا لم تعرف الحروب والانقلابات والمذابح التي شهدتها معظم البلدان الأفريقية جنوب الصحراء، فالأحداث الأخيرة أظهرت من دون شك، حدّة الانقسام القبلي الذي هدّد، للمرة الأولى، سقوط «النموذج الكيني» الذي يفاخر به أبناء هذه البلاد.
فكينيا هي الدولة الأفريقية الوحيدة التي بدا أنها أفلتت بنجاح من شراك «الدولة الفاشلة» خلال الأعوام القليلة الماضية؛ ارتبط اسمها بالاستقرار السياسي، والديموقراطية، والنجاح الاقتصادي... وهي كلّها عبارات غريبة عن القاموس السياسي في القارة السوداء.
وقد بدأ هذا النجاح منذ عام 2002، عندما أطاح «تحالف قوس القزح الوطني» الحزب الحاكم منذ الاستقلال بقيادة دانيال اراب موا، وذلك في أوّل انتخابات حرّة تشهدها البلاد. ولم يحل الماضي العنيف الذي جمع رايلا أودينغا (السجين السياسي الذي نفذ محاولة انقلاب على موا) بمواي كيباكي (أحد ركائز حكم موا منذ الستينيات) دون نسج تحالف الزعيمين لانتخاب الأخير رئيساً للبلاد. ثمّ خلال وقت قصير، استطاع كيباكي انتشال الاقتصاد الكيني من القعر وحقّقت بلاده معدّلات نمو ثابتة تقارب الخمسة في المئة، واستطاعت بناء قطاع سياحي عائداته مليارات من الدولارات سنويّاً.
لكن النجاح الاقتصادي لكيباكي ترافق مع فشل داخلي ذريع انفجرت نتائجه يوم الأحد الماضي، إذ أسهم في تثبيت هيمنة قبيلته (كيكويو) المسيطرة على المؤسسات السياسية والمرافق الاقتصادية، رغم عدم تجاوزها نسبة الـ22 في المئة من السكّان الموزّعين على أكثر من ثلاثين قبيلة أخرى. ويرى خصومه أن المحاباة القبلية والفساد بلغا في عهده ذروتهما.
أدّى ذلك إلى انفراط التحالف بين كيباكي وأودينغا بسرعة؛ فلم يمضِ وقت طويل حتى هزّت حكومة الرئيس فضائح فساد كبرى تورّط فيها وزراء وموظّفون على أعلى المستويات، ولا سيما في القطاع المصرفي.
في ظلّ النجاح الاقتصادي، تصاعدت حدّة الانقسامات القبلية على خلفية المطالبة بتوزيع أكثر عدالة للثروات المستأثرة قبيلة كيكويو بمعظمها. وتحوّل الصراع بين أودينغا وكيباكي إلى انقسام حقيقي قبلي وسياسي عمّ البلاد، فاصطفّ الكيكويو خلف رئيس الجمهورية، فيما حشد زعيم المعارضة ائتلافاً من قبائل عديدة، مثّلت قبيلته الليو عموده الفقري.
طالب أودينغا، الذي أطلق على ابنه اسم فيديل كاسترو، بالعدالة الاقتصادية وإنهاء سيطرة الكيكويو، وإقرار دستور فدرالي يضمن حقوق المناطق الإثنية.
لكن رغم عمق الانقسام الذي انفجر أخيراً على شكل مذابح عرقية دامية، فإن تدهور الأوضاع الكامل يبقى احتمالاً بعيد الحدوث لأسباب داخلية وخارجية.
على الصعيد الداخلي، تجمع بين القبائل الكينية علاقات قربى في الدم والجغرافيا، ساعدتها في ذلك فترة الاستقرار الطويلة ـــــ رغم وجود مراكز تجمعات قبلية معروفة وهي كيكويو في وسط البلاد والليو في غربها. ولا تؤلّف أي قبيلة أكثرية كافية لبسط نفوذها، كذلك فإن التعددية السياسية والنجاح الاقتصادي يؤديان دوراً مهماً في تخفيف الصدامات.
أما على الصعيد الخارجي، فالكلمة الفصل هي لموقع كينيا الجيوسياسي الذي يجعل استقرارها ذا أهمية كبرى للقوى العظمى ولمنطقة شرق أفريقيا خاصة. فهي تتوسّط زيمبابوي وأوغندا والسودان وإثيوبيا والصومال، وهي جميعها مناطق ثروات ونزاعات مستمرّة منذ أكثر من نصف قرن. وهذا الموقع يكسبها أهمية اقتصادية لتكون جنّة استثمارية ومركز إمداد وتجارة لشرق أفريقيا، وأهمية سياسية ودبلوماسية تتمثّل بقدرتها على أداء دور الوسيط واستضافة مؤتمرات السلام لحلّ النزاعات المجاورة ولو بالنيابة عن الدول الكبرى مثل الولايات المتحدة.
وواشنطن تراها صوتاً لها في أفريقيا، وهي إحدى الدول الأربع المحددة «ذات أهمية استراتيجية» للوجود الأميركي في القارة السمراء، بحسب استراتيجية الأمن القومي للرئيس جورج بوش، والتي كرست مع كينيا تحالفاً طويلاً بدأ في الستينيات.
وساعد هجوم «القاعدة» على السفارة الأميركية في 7 آب 1998 على تعميق العلاقات بين نيروبي وواشنطن التي تولّت تدريب القوات الأمنية والعسكرية الكينية. كذلك فالاستثمارات الأميركية في كينيا هي من الأكبر في أفريقيا، وأيضاً التبادل التجاري بينهما الذي يبلغ نحو نصف مليار دولار.
ولكيباكي علاقة مميزة مع واشنطن، تعمّقت منذ وجوده في السلطة إلى جانب موا، وهي قد تفسّر الارتباك الأميركي إثر فوزه بولاية ثانية مشكوك بأمرها. وكان كيباكي قد توّج علاقته عام 2003 بزيارة إلى البيت الأبيض استقُبل فيها بحفاوة. وانتهت الزيارة بزيادة المساعدات الاقتصادية والعسكرية لنيروبي وتثبيت دور الأخيرة في «قيادة عملية السلام» في السودان.
إن الاستنفار الدولي الخائف من خسارة آخر واحات الاستقرار في شرق أفريقيا، سيمنع على الأرجح انزلاق كينيا إلى المزيد من الحرب الأهلية، لكنه لن يمحو فشلها الذريع في تخطّي الامتحان الديموقراطي الثاني من نوعه في البلاد، وفي إثبات خطأ المقولة الأفريقية التي ترى أن ما من حاكم فيها يخسر السلطة من دون أن تسيل أنهار من الدماء.