strong>حسن شقراني
درجة شغف المواطن الروسي بالسياسة تطغى على أيّ طرح يعالج مسألة: لماذا ورثة القيصريّة والشيوعيّة غير مهتمّين بالشأن العام؟ فعند النظر إلى روسيا، من سان بطرسبرغ إلى فلاديفوستوك، ومن بروفيدينيا إلى غروزني، تظهر ملامح مجتمع شبيه إلى حدّ بعيد بذلك الذي أرسته الثورة البولشفيّة: ليس هناك حاجة للانخراط جدياً في متاهات السياسة ما دام «التمتّع بالحياة الخاصّة»، في ظلّ تحمّل النظام البيروقراطي عبء تأمينه، متاحاً.
«المعركة من أجل الديموقراطيّة» تبدو أكثر ارتباطاً، في هذا السياق، بلاعبين من خارج الزمن الاجتماعي، مثل بطل الشطرنج، مرشّح تكتّل «روسيا الأخرى» إلى الرئاسة في آذار المقبل، غاري كاسباروف، الذي يعتبر نصفيه، الأميركي واليهودي، سلبيّة في محاكاة التغيير داخل منظومة فكريّة جماعيّة تتّخذ من القوميّة واستعادة الكرامة الوطنيّة موجّهاً لتطوير البلاد وملامسة الأمجاد العابرة.
فقبيل حسم «روسيا الأخرى» لخيارها بالنسبة لمرشّحها إلى الكرملين، شرح كاسباروف لماذا القيادي في التكتلّ، رئيس الوزراء السابق لمدّة 4 سنوات، ميخائيل كاسيانوف، لن يحضر مؤتمر الاختيار. واعتمد في ذلك على مبدأ يفيد بأنّ التغيير الذي تقوده المعارضة يجب أن يبدأ من الأسفل إلى الأعلى، وبالتالي يجب تكثيف المؤتمرات المصغّرة في المحافظات و«إلّا ما هي الفائدة؟» في الصراع لتكريس الديموقراطيّة مذهباً، و«كيف يمكن حثّ الناس على الانخراط والمشاركة؟».
ويبدو أنّ رؤية كاسيانوف، المبنيّة على تجربته في الحكم، تعتمد على توفير الجهود غير الضروريّة نظراً لأنّ الشعب الروسي اعتاد تبلور آليّات الحكم وتغيّراته في المراكز العليا من البناء السياسي، وأصبح إرضاؤه سهلاً بعد السنوات السوداء التي عهدها خلال العقد الأخير من القرن الماضي. وبالتالي فإنّ الليبراليّة بغير رداء يمحو تلك الذكريات المرّة ليست ضروريّة لمجتمع يرى أكثر من 75 في المئة من أفراده أنّ النهوض يتمّ بشكل سليم.
ويظهر لاعب آخر في «المعركة من أجل الديموقراطيّة»، هو «الحزب الشيوعي»، الذي سارع بعد الانتخابات النيابيّة التي شهدتها البلاد الأحد الماضي إلى تجريد الاستحقاق من أيّ شرعيّة نظراً لما شابه من «فساد». غير أنّ طرح «الشيوعي» للتغيير، والذي يعتمد على خطّة قدّمها زعيم الحزب غيناردي زيوغانوف، يبدو بكلّ بساطة غير جذّاب. فالـ«خطوات السبع نحو غد كريم»، والتي يعد الحزب بتنفيذها، تتضمّن إجراءات مثل «تأميم الفروع الاستراتيجية للاقتصاد» ومنح «كلّ السلطة للسوفيات» من أجل «نقل السلطة إلى مجالس الكادحين». خطوات يتمّ طرحها في ظلّ تحوّل يشهد ازدياد عدد شريحة الطبقة الوسطى، ووعود لامتناهية من قبل الرئيس فلاديمير بوتين تصب داخل إطار استعادة الهيبة في الجوار الاستراتيجي وفي ملعب السياسة ـــــ الاقتصاديّة ـــــ الأمنيّة الدوليّة. وعود تكلّلها تصريحات المجمع العسكري، وخطوات لاستعادة المبادرة في الشرق الأوسط.
ونتيجة لذلك، يتّضح أنّ المواطن الروسي راضٍ بما أمّنه نظام بوتين خلال ثماني سنوات، ويعد بتقديمه من خلال بقاء سيّد الكرملين ممسكاً بزمام الأمور (كيفيّة حدوث ذلك لا تزال غامضة) بعد انتهاء ولايته الرئاسيّة الثانية في آذار المقبل. وأكثر من ذلك، يعي المواطن الروسي أنّ عودة بوتين إلى الرئاسة في عام 2012، هي مسألة واقعيّة، بل ومطلوبة لتتويج تطبيق «خطّة بوتين» التي يعتمدها حزب «روسيا الموحّدة» برنامجاً (لا تزال بنوده غامضة أيضاً). فهل تشهد روسيا نمطاً جديداً من العقليّة السوفياتيّة، وما قد يستتبعه ذلك من إعادة بسط للنفوذ؟
يمكن اعتبار النظام السياسي القائم في روسيا الآن «دكتاتورياً توافقياً» (لكونه يحظى بقبول ثلثي الشعب)، رغم أنّ النظام في موسكو لا ينكر «أوروبيّة» البلاد. غير أنّ نقطة الالتقاء بين استعادة النفوذ على الساحة الدوليّة وصيرورة التطوّر الاجتماعي (الذي تؤمّنه سياسات اقتصاديّة رشيدة) هي بالضبط المحفّز السياسي لنشأة طموح نيو ـــــ إمبريالي.
والنفوذ الدولي الذي يتخذ أشكالاً مختلفة (استخدام سلاح النفط والموارد الطبيعيّة والممانعة في الملفّات الدوليّة الشائكة كالملفّ النووي الإيراني، وموضوع التسوية في الشرق الأوسط، والتلاعب بورقة كوسوفو) يعيد إلى الأذهان ما كان الاتحاد السوفياتي يتمتّع به للبقاء حياً خلال الحرب الباردة، وأهمّه ترسانة الأسلحة.
فمفهوم القوّة لم يفارق «القيادة» من المنظور الروسي، وحصول «روسيا الموحّدة» على ثلثي مقاعد مجلس الـ«دوما» (النسبة التي تؤمّن قدرة على تعديل الدستور وصلاحيّات مفاتيح الحكم) تعدّ تفويضاً واضحاً للرئيس من أجل «استكمال المسيرة».
السوفياتيّة، وتحديداً نظام استخباراتها «كاي جي بي»، صقلت مهارات بوتين مذ تسلّم مهماته في ألمانيا الشرقيّة عام 1985، فهل تحوّل مهاراته التي أعادت كرامة روسيا، الشعب سوفياتياً من جديد؟
العالم يشهد عودة التعدّديّة القطبيّة، وحنين روسيا إلى الإمبراطوريّة يزيد.