حيفا ـ فراس خطيب
في مبنى وحدة «قيسارية» التابعة للموساد الإسرائيلي، غرفة صغيرة عُلِّقت على أحد جدرانها ثلاث صور لأفراد من الوحدة قتلوا أثناء «تأديتهم المهمة»؛ الأولى للجاسوس الإسرائيلي إيلي كوهين، الذي أُعدم في دمشق، وصورتان لعميلين: «ع» و«أ»، من وحدة «كيدون» التابعة لـ«قيسارية». ولا تزال الرقابة تمنع حتى هذه اللحظة نشر اسميهما رغم مرور 14 عاماً على موتهما في العاصمة النمساوية فيينّا، أثناء ملاحقتهما لنائب وزير الدفاع الإيراني مجيد عبسفور.
ترد هذه المعلومات في كتاب «نقطة اللاعودة»، للباحث والصحافي الإسرائيلي رونين برغمان، الذي يشرح فيه كيفيّة موت العميلين في «قضية إسرائيلية كبيرة»، تحظى حتى هذه الساعة باهتمام واسع، وهي قضية رجل الأعمال الإسرائيلي ناحوم منبر الملقّب في الموساد بـ«ترميت».
وفي تفاصيل الرواية، تعرّف منبر في بريطانيا على سيّدة أعمال هي جوي كيدي مركهام. وتعرّف بواسطة هذه السيدة على وسيط سلاح إيراني يعمل في أوروبا يُدعى باري هاشمي. وتطوّرت علاقات تجارية بين الرجلين، يقول الكتاب، باع منبر من خلالها أسلحة «تقليدية» للإيرانيين، وجمع ثروة كبيرة. وقال منبر إنّ هذه الصفقة جرت بعلم كل الجهات المختصة في إسرائيل.
كما تطوّرت العلاقات بين منبر والإيرانيين، إلى حد أنه في العام 1990، تعرّف إلى الدكتور الإيراني مجيد عبسفور عن طريق باري هاشمي، الذي قدم له عبسفور على أنه «مساعد الرئيس (علي أكبر هاشمي) رفسنجاني».
وكان عبسفور المسؤول عن المشروع الكيميائي الإيراني، وعُيّن في ما بعد في مناصب وزارية هامة. والتزم منبر أمام المسؤول الإيراني بتقديم طرق لإنتاج مواد خام لصناعة الأسلحة الكيميائية، وهو ما لم يرق الإسرائيليّين كما تبيّن في ما بعد.
في أواسط عام 1992، وصلت معلومات إلى «الموساد» تشير إلى أنّ منبر يزوّد الإيرانيين بمواد لصناعة أسلحة كيميائية. والتقى عميل «موساد» بمنبر في 16 تموز من عام 1992، طالباً منه العزوف عن التعاون مع الإيرانيين، لكنّ منبر استمرّ بالتعاون معهم «بحجّة السعي للحصول على معلومات عن الطيار رون أراد».
وانطلقت العملية، التي قتل فيها عميلا الموساد «أ» و«ع»، بعدما نقل منبر إلى الإسرائيليين شريطاً (قال الإسرائيليون في ما بعد إنه مفبرك) يحوي معلومات عن أراد، من مصدر يُدعى «برد».
وبعد لقاء منبر بعبسفور في فندق في فيينا، كان المسؤول الإيراني غاضباً للغاية. ويقول منبر «قال لي (عبسفور)، اسمع، عليك أن تعلم أن هناك من يتعقّب خطواتي منذ أن خرجت من المطار. هؤلاء جماعتك، فلا أحد يعلم أنّي هنا سواك».
ونزل منبر إلى الفندق ووجد شخصين يتعقّبانه، واتصل فوراً بوكيل «الموساد» وكان غاضباً. غير أنّ وكيل الموساد أنكر في حديثه لمنبر أن يكون الرجلان تابعين لجهازه. لكن منبر لم يصدّقه.
ويؤكّد منبر أن عبسفور اتجه فوراً نحو السفارة الايرانية. في الطريق، لحق به الاثنان على درّاجة ناريّة حيث لقيا حتفهما بعدما انقلبت الدراجة وارتطمت بهما سيارة. وبسرية تامّة، نقلت الجثتان إلى إسرائيل، وكُتب في شهادة الوفاة: «سبب الوفاة: غير معروف».
ومنذ ذلك التاريخ، بدأ «الموساد» حرباً على منبر، متّهماً إياه بأنه كشف هويّة العميلين للإيرانيّين، ما أدّى إلى مقتلهما. وظلّ الموساد يتابع خطوات منبر خارج إسرائيل، ويتنصّت على هواتفه ويراقب لقاءاته واتصالاته. وبعد أربع سنوات، وفي 27 آذار من عام 1997، عاد منبر إلى إسرائيل حيث اعتُقل على الفور.
وقُدِّمت لائحة اتهام ضدّ منبر بتزويد الإيرانيّين بـ150 طناً من مواد الخام لإنتاج غاز الخردل. وكان منبر، بحسب الكتاب، متأكّداً من أن المحكمة ستبرّئه من كل التهم المنسوبة إليه، لدرجة أنّه في يوم إصدار الحكم، طلب طائرة خاصة لنقله إلى باريس. إلا أن المحكمة حكمت عليه بالسجن لمدة 16 عاماً نُقل من بعدها إلى سجن الرملة.