معمر عطوي
بقطع النظر عن المعايير المتبعة في منح جائزة نوبل، التي جاءت تكفيراً عن ذنب ارتكبه ألفرد نوبل باختراعه لمادة الديناميت القاتلة، فإن تحوّل الجائزة المخصصة للسلام من الفضاء السياسي الى الفضاء الاقتصادي والإنمائي يعيد مصطلح السلام الى بيئته الأصلية، ذلك أن المجتمع السويّ الخالي من التعقيدات والفاقة والظلم يؤلّف مناخاً ممكناً لمجتمع قائم على الحوار بدل الاقتتال

“إنكم تدعمون حلماً بصياغة عالم خال من الفقر”. عبارة نطق بها البروفسور البنغالي محمد يونس أمس، عقب فوزه بجائزة نوبل للسلام مناصفة مع مصرف “غرامين” أي “بنك القرية”، الذي أسسه عام 1976، لتثير تساؤلات عن مدى تحقق شروط إمكان وجود عالم خال من الفقر.
الفكرة بحد ذاتها ضرب من الخيال، لكن يونس اختار أن يضيء شمعة على أن يلعن الظلام. فتحول النموذج الذي قدمه، من خلال “بنك غرامين”، طوق النجاة الذي أنقذ عشرات الملايين من الفقراء في بنغلادش وبعض دول العالم النامي من هول الفقر.
النقطة الأبرز في هذا الحدث هي التحول الذي طرأ على هذه الجائزة، التي كانت تعنى بالسياسة فانتقلت الى الاقتصاد والتنمية، لتكتشف أن ثمة علاقة جدلية بين مشاريع القضاء على الفقر وبين إيجاد مناخ ملائم للسلام، ذلك أن مع انتشار الفقر الى جانب الظلم والتخلف والأمية لا يمكن تحقق مناخ كهذا. من هنا جاء بيان لجنة نوبل النروجية أمس ليؤكد أن “تحقيق السلام الدائم لن يكون ممكناً من دون تمكن مجموعات كبيرة من السكان من التخلص من الفقر. حيث تمثل القروض الصغيرة إحدى هذه الوسائل”.
رسالة في الحياة
ومحمد يونس (مواليد عام 1940)، الذي يقف وراء حركة غرامين للمصارف المتناهية الصغر التي تعرف باسم (مصارف الفقراء)، والتي قدمت مساعدات لملايين من مواطني بنغلادش، هو ابن مدينة شيتاغونغ الساحلية، التي كانت تعدّ في ذلك الوقت مركزاً تجارياً لمنطقة البنغال الشرقي في شمال شرق الهند.
من هناك، وفي أسرة تتمتع برغد العيش (هو ثالث أبناء أسرة رزقت بـ14 طفلاً، توفي خمسة منهم بعد ولادتهم بسنوات قليلة)، يعمل الوالد فيها صائغاً، انطلق الاقتصادي الواعد نحو تحقيق طموحاته. كان لأمّه صفية خاتون دور في تكوين شخصيته، وهي التي كانت لا تردّ سائلاً من المحتاجين، فعلّمته أن تكون له رسالة في الحياة.
بدأت طموحاته تكبر شيئاً فشيئاً، بعدما حصل عام 1965 على منحة من مؤسسة “فولبرايت” لدراسة الدكتوراه في جامعة “فاندربيلت” في ولاية تينيسي الأميركية، حيث بدأت خلال فترة وجوده بالبعثة حرب تحرير بنغلادش واستقلالها عن باكستان عام 1972. وهو ما دفعه للاشتراك في الحركة الطالبية البنغالية المؤيدة للاستقلال، ليعود بعدها الى بنغلادش المستقلة حديثاً ويصبح رئيساً لقسم الاقتصاد في جامعة شيتاغونغ. كان أهالي بلاده يعانون في ذلك الحين ظروفاً معيشية صعبة.
ولعل فترة المجاعة التي مرت فيها بنغلادش في عام 1974، والتي قتل فيها نحو مليون ونصف مليون شخص، كانت محطة من محطات التحول نحو تحقيق الطموحات. وبدأ يونس منذ عام 1974 بقيادة طلابه في رحلات ميدانية إلى قرية “جوبرا” القريبة من الجامعة.
وفي هذه القرية، لمعت في ذهنه فكرة أثناء محاورته امرأة هناك كانت تصنّع كراسي من البامبو، فقد علم من المرأة أنها لا تملك رأس المال الخاص بها، ولذلك فهي تلجأ إلى اقتراضه من أحد المرابين في القرية لشراء البامبو الخام، وكان هذا الوضع ينسحب على أحوال الملايين من الفقراء الذين لاحظ أنهم لا يحتاجون سوى لرأس مال يتيح لهم الاستفادة من عوائد أموالهم، فبدأ مشروعه بإقراض 42 امرأة يعملن في نسج السلال نحو 27 دولاراً لتوسيع أعمالهن، من جيبه الخاص، ومن دون فائدة، ودونما تحديد لموعد الرد، معتبراً أن تشجيع النساء على العمل وتحسين ظروفهن هو المنطلق لتحسين ظروف المجتمع.
لكنه بعد ذلك خاض صراعاً مريراً في سبيل إقناع المصرف المركزي بوضع نظام لإقراض الفقراء من دون ضمانات، واستمر هذا الصراع من عام 1976 حتى عام 1979 عندما نجح المشروع الذي أقامه في قرية جوبرا بمساعدة طلابه نجاحاً باهراً وغيّر مسار حياة 500 أسرة من الفقراء. عندها، اقتنع المصرف المركزي بنجاح الفكرة وتبنّى “مشروع غرامين” الذي حصل على صفة مصرف في عام 1983. وكبر المصرف مع الوقت حتى بات يمنح 5.7 مليارات دولار من القروض الصغيرة تتوزع على نحو 6.5 ملايين مقترض. وانتشرت صيغته في أكثر من 40 بلداً، كما تبنّى البنك الدولي فكرته.
“قديس الفقراء”
لعل أبرز ما يمتلكه “رجل السلام” الجديد، أو كما يعرف بـ“بقديس الفقراء”، هو نظرته النقدية لمؤشرات التنمية السائدة، واهتمامه بالطبقة الاجتماعية المسحوقة، اي نظرة تبدأ من القاع الى القمة وليس العكس.
اضافة إلى ذلك، عمل يونس وفق المثل القائل “لا تعط الفقير مالًا بل علّمه حرفة”، معتبراً أن حثّ الفقراء على مساعدة انفسهم بأنفسهم هو المحرك الأساسي لعجلة التنمية في أي مجتمع، مؤكداً ذلك بقوله إن “الاحسان ليس الحل للفقر، لأنه يقضي على روح المبادرة”.
دكتوراه فخرية
من الجدير ذكره أن البروفسور يونس حاز في 24 حزيران الماضي شهادة الدكتوراه الفخرية من الجامعة الاميركية في بيروت، حيث وصف الدكتوراه بأنها تدعم رؤياه لأهمية القروض الصغيرة في التغلب على الفقر وفي حفظ الكرامة الانسانية، قائلاً “إني اؤمن بأن في الإمكان بناء عالم خال من الفقر، الفقر يجب أن يكون في المتحف، والصغار سيلومون آباءهم لأنهم قبلوا به لفترات طويلة”.
مكتشف الرأسمال الاجتماعي
وقال عنه رئيس الجامعة الاميركية في بيروت واتربوري “اكتشف يونس في السبعينيات من القرن الماضي ما سمّي لاحقاً الرأسمال الاجتماعي، الذي يمثّله تعاون مجموعات من الناس، محمد يونس اطلق هذا الرأسمال بين النساء البنغاليات فأطلق معه ثورة مصرفية وإنمائية”.
لقد كانت “جائزة نوبل” التي سيتسلمها يونس في العاشر من كانون الأول المقبل محطة مهمة على طريق تعزيزه مشروعه “نحو عالم خال من الفقر”؛ فقد قال أمس “ستشتد الحرب على الفقر في شتى انحاء العالم. سيتعزز النضال ضد الفقر من خلال القروض الصغيرة في غالبية الدول”.
لكن السؤال الذي يطرح نفسه هنا: هل يمكن تحقيق ذلك في ظل تضخم السياسة الرأسمالية التي تشنّ حرباً “هوجاء” على العالم فتزيد الفقراء فقراً والأغنياء غنىً؟ من السهل التكهن بإيجاد “عالم محمد يونس” لكن الإرادة وحدها قد لا تكون كفيلة بإيجاد شروط إمكان تحققه.



105 أعوام على جائزة نوبل للسلام


منحت جائزة نوبل للسلام للمرة الأولى عام 1901 الى مؤسس اللجنة الدولية للصليب الاحمر هنري دونانت (سويسرا) ومؤسس جمعية السلام الفرنسي فريدريك باس.
وحصل على هذه الجائزة خلال الاعوام الـ15 الماضية كل من: الوكالة الدولية للطاقة الذرية ومحمد البرادعي (مصر)، ونغاري ماتاي (كينيا) وشيرين عبادي (إيران)، وجيمي كارتر (الولايات المتحدة)، ومنظمة الأمم المتحدة وأمينها العام كوفي انان (غانا)، وكيم داي ـــ جونغ (كوريا الجنوبية) ومنظمة “أطباء بلا حدود” غير الحكومية الفرنسية.
كما حصل عليها كل من جون هيوم وديفيد تريمبل (ايرلندا الشمالية)، والحملة العالمية لحظر الألغام المضادة للأفراد ومنسّقتها جودي وليامز (الولايات المتحدة)، والاسقف كارلوس بيلو وجوزيه راموس هورتا (تيمور الشرقية)، وحركة “بغواش” المناهضة للأسلحة النووية (تأسست في كندا)، وجوزف روتبلات (بريطانيا)، وياسر عرفات (فلسطين) وإسحق رابين وشمعون بيريز (إسرائيل)، ونلسون مانديلا وفرديريك دو كليرك (جنوب افريقيا)، وريغوبرتا مينشو (غواتيمالا).
وتبلغ قيمة الجائزة اليوم 10 ملايين كرونة (1.37 مليون دولار). وهي تقدم عادة في العاشر من كانون الأول الموافق ذكرى وفاة مخترع الديناميت السويدي ألفريد نوبل.