من الواضح أن الولايات المتّحدة أصبحت عاجزة عن إقناع العالم بوجهة نظرها وعن فرض التغيير بالقوّة العسكرية، فأصبحت تلجأ إلى الإرهاب الاقتصادي، والآن الصحّي. و«وجهة النظر» المقترحة ليست إلّا الخضوع الكامل لمشيئتها في الهيمنة على مقدّرات العالم ومنع أي قوّة من تنافسها. كما أن سياساتها في ما يتعلق بالعلاقات مع العالمَين العربي والإسلامي تهدف في الحدّ الأدنى إلى حماية الكيان الصهيوني، وفي الحدّ الأقصى تمكينه من الهيمنة على مقدّرات المنطقة العربية الإسلامية. هذه السياسات لم تنجح ولن تنجح رغم الاحتلال والحروب بالواسطة وزرع الفتن بين مكوّنات شعوب المنطقة، فكان لا بدّ من التصعيد في اتّجاه الإبادة الجماعية كما فعلت مع السكّان الأصليين للقارة الأميركية. أداة الإبادة الجماعية، خارج السلاح الدمار الشامل، هي التجويع عبر الحصار ومنع وصول الأدوية عبر العقوبات التي تُفرض على كلّ من يتعامل مع الدول المستهدفة.من هنا تأتي سياسة الحصار وفرض العقوبات الجماعية على الشعوب بحجّة معاقبة النخب الحاكمة في الدول التي تحاول استكمال استقلالها السياسي والاقتصادي والأمني والثقافي. فالحصار على الشعوب والعقوبات التي تفرضها على هذه الدول هي عين الإرهاب الذي هو سلاح الضعيف واليائس.
لذلك، ليست صدفة أن تتزامن طروحات الفيدرالية في لبنان مع دعوات لإقامة تجمّعات مذهبية مناهضة للمقاومة ومع انتقادات لحزب الله من قِبل بعض الأقلام المحسوبة على بيئة المقاومة، وذلك عشية دخول القانون الأميركي «قيصر» حيّز التنفيذ. فالمسألة أولاً وأخيراً مرتبطة بتوفير الأمن للكيان الصهيوني المترهّل والمترنّح تحت وطأة التناقضات الداخلية وفقدان مصداقيته الخارجية. فيتمّ ذلك الهجوم عبر إضعاف المقاومة وجّرها إلى سجالات لتصل إلى تصادم داخلي استطاعت حتى الساعة تجنّبه. وليس الإرباك المسيطر على حكومة الدكتور حسّان دياب في مقاربة ملف قانون قيصر إلّا دليلاً على حجم الضغوط التي تمارَس على لبنان. لم ترتكب هذه الحكومة أي «فَوْل» حتى الساعة، غير أنّ ثقل ملف القانون جعلها تترنّح. فهل تقع وتسقط الحكومة ويدخل لبنان في المجهول إذا لم يستطِع مجلس النوّاب التفاهم على بديل؟
بعيداً عن هذه الاعتبارات لا بدّ من إبداء بعض الملاحظات حول القانون بحدّ ذاته؛
ــ الملاحظة الأولى هي التذكير بالملتقى الافتراضي الذي عُقد في بيروت في 24 نيسان 2020 بدعوة من المركز العربي الدولي للتواصل والتضامن والذي جمع أكثر من 300 شخصية من كل أنحاء الوطن العربي. والملتقى أصدر بياناً تحت إعلان بيروت يرفض سياسة العقوبات المفروضة على سورية وكل الدول بشكل عام التي تستهدف الشعوب للضغط على الحكّام لتغيير سياساتهم وفقاً لإملاءات خارجية متحرّكة.
ــ الملاحظة الثانية هي أن سياسة العقوبات لم تنجح في أيّ بلد إن لم تحظَ بإجماع دولي، كما حصل في جنوب أفريقيا في حقبة التمييز العنصري وفي روديسيا التي كان لها نفس النظام السياسي. في هاتين الحالتين فقط، نجحت العقوبات في تغيير النظام السياسي. أما سياسة العقوبات المفروضة من طرف واحد كالولايات المتحدة، أو حتى من مجموعة دول كدول الاتحاد الأوربي، فلم تنجح حتى الآن، ولن تنجح. فالدول المستهدَفة من تلك المجموعة بقيادة الولايات المتحدة تجاه كل من روسيا والصين والجمهورية الإسلامية في إيران وكوبا والجمهورية البوليفارية في فنزويلا وسورية ما زالت ترفض الخضوع للإملاءات الأميركية والأوروبية، بل أكثر من ذلك استطاعت تجاوزها رغم الألم الذي سببته تلك العقوبات على مدى السنين، وفي حال كوبا وإيران وسورية على مدى عقود من الزمن.
بإمكان الدول والشركات والأشخاص المستهدفة أن تطالب الولايات المتحدة بالتعويض عن الضرر الذي سيصيبها لو التزمت بالقرار


ــ الملاحظة الثالثة هي أن قانون قيصر ومعه سائر سلّة العقوبات السابقة واللاحقة هي عدوان موصوف على الشعوب، وبالتالي تشكّل جرائم حرب موصوفة. يهدف هذا القانون إلى خنق الاقتصاد السوري، أي خنق الشعب السوري عبر حرمانه من التعاون مع أي بلد وأي شركة، وذلك لتجويعه وصولاً إلى قتله عبر منع المساعدات الطبّية ووصول الدواء بشكل طبيعي ومنتظم. رفض هذا القانون هو أولاً واجب أخلاقي، وثانياً واجب وطني، وثالثاً واجب قومي، في آن واحد.
إذا وضعنا جانباً هذه الملاحظات، نعتقد أن آفاق نجاح هذه العقوبات محدودة للغاية لعدّة أسباب:
- السبب الأول هو أن موازين القوّة التي رافقت صوغ ذلك القانون تغيّرت بشكل واضح لمصلحة القوى المناهضة للهيمنة الأميركية من جهة والمقاومة للعدو الصهيوني من جهة أخرى، وذلك على الصعيد الميداني والسياسي. فقوانين الاشتباك لم تعد تحدّدها الولايات المتحدة بعد الرد الإيراني على قاعدة الأسد في العراق وبعد اختراق الحصار على فنزويلا لناقلات النفط الإيرانية ومشتقاته من دون أي ردّ عملي يُذكر. كما أن العدو الصهيوني يطبّق قوانين الاشتباك التي فرضتها المقاومة وليس العكس، وذلك على لسان القيادات العسكرية الصهيونية. ومن ضمن التغيير في موازين القوى جائحة الكورونا وفشل الإدارة الأميركية في مواجهتها وإيقاف العجلة الاقتصادية في الولايات المتحدة والبطالة التي قد تصل إلى 40 مليون عامل. أضف إلى كلّ ذلك الاضطرابات والاحتجاجات على العنصرية البنيوية في الولايات المتحدة التي أطلق شرارتها مقتل مواطن أميركي من أصول أفريقية على يد أحد أفراد الشرطة في مدينة مينيابوليس، فكانت الشعرة التي قصمت ظهر البعير. والكلام اليوم الدائر في أروقة السلطة في الولايات المتحدة هو حول إدخال المؤسسة العسكرية على الساحة الداخلية وما يرافقها من أزمات حادّة دستورية وسياسية. كما أن موجة التنديد بالرئيس الأميركي لخطابه العنصري (وإن لم يكن جديداً) تشير على ما يبدو إلى أن الكيل طفح. وبالتالي دخلت الولايات المتحدة مرحلة اللاتوازن وربما في المجهول.
- السبب الثاني هو ناتج عما سبق وهو إمكانية مواجهة العقوبات بشكل فعّال. فالعقوبات وإن كانت موجّهة نظرياً ضد سورية فإنها تستهدف العالم أجمع، إذ أنها دولة تزعم أنها تستطيع فرض قوانينها الداخلية على العالم وأن ليس هناك من قانون دولي بل فقط القانون الأميركي. وكما أشرنا، فإن القرارات الأحادية التي لا تحظى بإجماع تفشل حتماً، فما بال قرار يستهدف العالم كله؟ من المؤشرات التي تدلّ على أن العالم لن يتجاوب مع قرار الإدارة الأميركية رفض عدد من دول المجموعة 7 بعقد لقاء وإن كان افتراضياً وذلك بناء على طلب الرئيس الأميركي.
هنا يمكن التوقف عند تجارب حديثة تضاف إلى التجربة الكوبية في مواجهة العقوبات الأميركية. التجربة الأولى هي التجربة الإيرانية، والثانية التجربة الفنزويلية، والثالثة الروسية، والرابعة الصينية. هذه التجارب، إن دلّت على شيء فهو فشل المحاولات الأميركية لتغيير النظام في الحد الأقصى والسلوك في الحد الأدنى كما تزعم بالنسبة إلى سورية. كل تجربة على حدة تستحقّ بحثاً منفصلاً، لكن يمكن القول إن الدول التي تنتج غذاءها هي التي تستطيع أن تصمد. فالدولة التي تزرع لا تجوع وبالتالي يصعب إخضاعها وترويضها. فما بال إذا كانت تلك الدولة متحالفة في مواجهة الاستكبار الأميركي. فهذه الدول تشكّل ثلثي العالم من ناحية السكّان وأكثر من نصف الاقتصاد العالمي. تتوهّم الولايات المتحدة أن تحكّمها وسيطرتها على شرايين المال يعطيها القدرة على فرض الإملاءات. ما شهدناه في السنوات الأخيرة هو محدودية تلك السيطرة حيث بدائل نظام المدفوعات الدولية بدأت تظهر.
- السبب الثالث هو أنه بإمكان الدول والشركات والأشخاص المستهدفة أن تطالب الولايات المتحدة بالتعويض عن الضرر الذي سيصيبها لو التزمت بالقرار. لبنان، على سبيل المثال، يتحمّل ما يوازي 10 مليارات سنوياً جرّاء وجود النازحين من سورية. فإذا كان قانون العقوبات يمنع التنسيق مع الدولة السورية لعودة النازحين، فعلى الولايات المتحدة التعويض بذلك. هذا نموذج مما يمكن أن تطلبه الحكومة اللبنانية. وكذلك الأمر بالنسبة إلى التجارة عبر سورية للوصول إلى العراق والأردن ودول الخليج. فالعراق أبدى استعداداً لشراء المنتجات الزراعية اللبنانية كافة، وهذا لن يحصل إن استمرّت المقاطعة مع الدولة السورية. لذا، نعتقد أن لبنان يمتلك أوراقاً ليست بسيطة كما يعتقد البعض أو كما يروّج البعض الآخر أن لا حول ولا قوّة له إلّا بالانصياع للمشيئة الأميركية.
كما يمكن للحكومة اللبنانية مطالبة الولايات المتحدة بالتعويض عن الخسائر التي ستنتج عن قطع الإمدادات الكهربائية من سورية. على الحكومة اللبنانية المطالبة بالتعويض عبر استعمال المحاكم الدولية، وحتى المحاكم الأميركية، لأن القانون الأحادي يشكّل عدواناً صريحاً ليس فقط على سورية بل على لبنان والعالم أجمع. الدستور الأميركي لا يحمي القوانين التي تعتدي على الدول الأخرى. على كل حال يمكن للخبراء القانونيين درس إمكانية مطالبة المحاكم الأميركية بإسقاط ذلك القانون وكذلك الأمر بالنسبة إلى المحاكم الدولية.
- السبب الخامس هو أن نظام العقوبات دفع بشكل ملحوظ إلى إقامة نظام مدفوعات دولي خارج إطار الدولار. سلّة تبادل السلع واستعمال العملات الوطنية والذهب إضافة إلى التحوّل إلى اعتماد عملات أخرى غير الدولار كاليووان الصيني على سبيل المثال سيخفّف من وطأة العقوبات.
- السبب السادس هو أن العالم الذي سيتأثر بالعقوبات المخالفة للقانون الدولي وقرارات مجلس الأمن وميثاق الأمم المتحدة لن يسكت عن الخسارات التي ستقع عليه. سورية مقبلة على ورشة إعمار كبيرة قد تستمر عدّة سنوات تستطيع الشركات العالمية المساهمة فيها. وبما أن جائحة كورونا ضربت الاقتصاد الأميركي وخاصة قاعدته الإنتاجية حيث تبيّن أنها منكشفة تجاه الصين، فإن منع الصين من المساهمة في إعادة إعمار سورية يصبح صعباً أو مستحيلاً. فالولايات المتحدة أصبحت بحاجة إلى الصين أكثر من حاجة الصين إلى الولايات المتحدة. أما دول الاتحاد الأوروبي فستقدم على مراجعة الاتكال على الاقتصاد الأميركي لحماية مصالحها الاقتصادية.
أما في ما يتعلّق بلبنان فحجم الخسارة المرتقبة من تحدّي العقوبات أقل بكثير مما يعتقد البعض. فحجم المبادلات مع الولايات المتحدة لا يأتي إلّا في المرتبة الخامسة أو السادسة بعد الصين ودول الاتحاد الأوروبي. أما العقوبات على بعض الشخصيات اللبنانية يثير سؤالاً عن مصلحة الأشخاص مقابل المصلحة الوطنية. الحسابات الضيّقة لبعض القيادات قد تسهم في إضعاف مقاومة العقوبات، لكن في آخر المطاف تلك المصالح لن تصمد أمام حجم المصلحة الوطنية بالانفتاح على سورية.
أهم ما يمكن أن نقوله هو أن مواجهة العقوبات ستكون مواجهة عالمية. فلا يمكن لأي دولة المواجهة منفردة، بل بشكل جماعي، وهذا هو التوجّه المطلوب والممكن كي لا نقول الحتمي. فمحور المقاومة للعدو الصهيوني سيكون جزءاً من جبهة المواجهة العالمية خاصة أنها متحالفة مع الكتلة الأوراسية. فالإنجازات التي حققتها كل من الصين وروسيا في غرب آسيا لن تذهب هدراً عبر الرضوخ لتلك العقوبات، وبالتالي الخيار المتاح للحكومة اللبنانية أصبح واضحاً. الصعوبة ليست في المواجهة بل في اتخاذ القرار.

*كاتب اقتصادي سياسي والأمين العام السابق للمؤتمر القومي العربي