انخفاض القيمة الحقيقية للأجور أمر لا مهربَ منه في حالة وقوع أزمات العملات. هذه خلاصة ما تكشفه الورقة البحثية التي أعدّها إميليانو برانكاشيو وناديا غاربيليني بعنوان «أزمات نظام العملة، والأجور الحقيقية، وتوزيع الدخل الوظيفي والإنتاج». درست هذه الورقة 28 حالة تحوّل من سعر صرف ثابت إلى أسعار صرف حرّة ما أدى إلى انخفاض قيمة العملة، وخلصت إلى أن تحرير سعر الصرف ينعكس انخفاضاً في القيمة الحقيقية للأجور. هذا ما حدث بالضبط في لبنان. فالانخفاض الحاد الذي طرأ على قيمة الليرة خلال سنة وبضعة أشهر أدى إلى تضخّم في الأسعار بنسبة 84% في عام 2020، وأضعف القدرة الشرائية للأجراء بشكل ملحوظ.
أنجل بوليغان ــ المكسيك

يمكن الاستجابة تجاه هذا الوضع من خلال الاعتراف بأن ما كان يُسمى «قيمة الأجور الحقيقية» في زمن كان فيه سعر صرف الدولار 1500 ليرة لكل دولار، لم يكن فعلياً قيمة حقيقية، بل كان يعبّر عن التضخّم الزائد في قيمة العملة (overvaluation). كذلك كانت القدرة الشرائية للأجور وهميّة. وأنتجت هذه المعادلة نظاماً استهلاكياً وهمياً أيضاً ولا مجال للعودة إليه. إلا أن المشكلة اليوم تكمن في الانحدار الحاصل في قيمة الأجور الحقيقية بشكل يهدّد الحدّ الأدنى من المستوى المعيشي، أي استهلاك الأساسيات فقط كالغذاء والمسكن والملبس والطبابة. لذا بعد الاعتراف بوهم القيمة السابقة للأجور، مع معرفة واقعيّة لما سيكون عليه شكل الاستهلاك في البلد، وبعد امتصاص الاقتصاد لأزمة العملة المحليّة، يفترض التفكير في كيفية تحسين أوضاع الأجور بشكل يتلاءم مع الواقع الجديد. لكن كيف يمكن أن يحصل ذلك؟

مصدر تحسين الأجور
المشكلة الأساسية في تحسين الأجور في ظل الأزمات، متعلقة بمصدر التمويل. أمر كهذا لا يمكن أن يحدث من خلال خطوة بسيطة مثل رفع الحدّ الأدنى للأجور، نظراً إلى ما يمكن أن يخلقه هذا الأمر من مسار تضخّمي في دوامة لا نهاية لها. هنا يمكن الحديث عن «الصعيد الذاتي»، أو «الحل الذاتي» الذي يتفوّق فيه أصحاب الأعمال بعلاقتهم مع الأجراء. هؤلاء، في عينَي جون ماينارد كينز، «هم الرابح الأكبر من الانخفاض في قيمة العملة». فهو يشير إلى تأثير انخفاض قيمة العملة على المجتمع عبر تشريحه إلى ثلاث شرائح: مستثمرون، أصحاب أعمال وأجراء. يرى كينز أن المستفيد الأكبر بين هؤلاء، هم أصحاب الأعمال لأنهم لا يعتمدون في تمويل مصالحهم على رؤوس أموالهم فقط (خصوصاً الكبار منهم) بل يعتمدون بشكل كبير على الاستدانة. وفي ظل أزمات العملة، فإن عقود الدين هي المتأثّر الأول لأنها تنصّ على دفعات سنوية أو شهريّة ثابتة، ولا تأخذ في الاعتبار التغيّر في قيمة هذه الدفعات. بهذه الطريقة تنخفض كلفة الدين الحقيقية على هؤلاء (تماماً كما يحصل في لبنان حالياً في ظل قيام المقترضين بسداد الديون بالشيكات المصرفية التي تدنّت قيمتها بنحو 75%). وتمتدّ هذه الاستفادة طوال مدّة آجال العقود القديمة. فعلى سبيل المثال، إذا اشترى صاحب المصنع، أرضه بواسطة قرض عقاري على أساس قيمة معينة يترتب عليها دفعات ثابتة، وهو يحتسب هذه الدفعات من ضمن كلفة إنتاجه ويبني عليها أيضاً أسعار المنتجات، فعندما تنخفض قيمة العملة، تنخفض القيمة الحقيقية لدفعات هذا القرض ما يؤدي إلى انخفاض قيمة إنتاجه الحقيقية، وتزيد هوامش ربحه.
كذلك يستفيد أصحاب العمل (تجار ومنتجون) من الارتفاع المتتالي للأسعار. فالتجار يشترون البضائع، والمنتجون يشترون المواد الأولية بأسعار منخفضة، بينما يبيعون سلعهم بأسعار أعلى تتناسب مع نسب ارتفاع سعر الصرف. يتذرّع هؤلاء بما يسمى قيمة/كلفة الاستبدال (replacement value) لتبرير رفع الأسعار إلى مستويات أعلى بكثير من كلفتها عليهم. هم يزعمون أن كلفة الاستبدال تأكل من رساميلهم، ما يضطرهم إلى رفع الاسعار. لكن في الواقع، إن هذه العملية تراكم الأرباح عند أصحاب العمل الذين يتحكّمون بأسعار بيع منتجاتهم أو خدماتهم أو بضائعهم ولا أحد غيرهم يحدّد هوامش ربحيتهم، لذا لا يمكن منعهم من الحفاظ على ثبات قيمة أرباحهم الحقيقية إلا بتدخّل الدولة لتحديد الأسعار وهو أمر استثنائي في النظام «الرأسمالي الحرّ» السائد.
ويستفيد أصحاب الأعمال أيضاً من انخفاض الكلفة الحقيقية لرأس المال البشري، أي الأجور. من هنا يمكن الضغط على أصحاب الأعمال لتحسين الأجور بدلاً من استغلال انخفاض قيمتها الحقيقية لمراكمة الأرباح. في هذه النقطة يتحدّث كينز عن تفعيل العمل النقابي والاتحادي للأجراء، الذي استطاع من خلاله عمال بريطانيا وأميركا، في العشرينيات، رفع أجورهم وتحسين ظروف عملهم أيضاً. وتجدر الإشارة إلى أن هذا الأمر يتعلق بالقطاعات القادرة على الاستمرار في العمل في ظل الأزمة، وهي حتماً القطاعات المنتجة وبعض القطاعات التجارية والخدماتية.

الأجر الاجتماعي
رفع الأجور المحدود بالطريقة المذكورة ليس كافياً. فالانخفاض الحاصل في قيمة العملة لا يمكن تغطيته بخطوة واحدة في ظل خسائر كبيرة طرأت على قيمة الأجور الحقيقية. الأمر يتعلق بقدرة المؤسسات على الاستمرار في ظل هذه الأزمة. قد تكون هناك مؤسسات قادرة على رفع الأجور، خلافاً لغيرها الذي تدهورت أحواله. المنطق التنافسي بين المؤسّسات يؤدي في أوقات الأزمات، إلى إلغاء بعضها بعنف. لذا يجب العمل على صعيد آخر، وهو محاولة خفض الأكلاف الاجتماعية على الأجير. من هذه الأكلاف التعليم والطبابة والخدمات الأساسية مثل النقل العام. السؤال الأساسي هنا هو كيف يمكن فعل هذا الأمر في ظل وجود دولة شبه مفلسة تعتمد على طباعة العملة لتلبية مستحقّاتها؟
يمكن الضغط على أصحاب الأعمال لتحسين الأجور بدلاً من استغلال انخفاض قيمتها الحقيقية لمراكمة الأرباح


إعادة توزيع الثروة هي من الطرق التي يمكن أن تموّل مثل هذه الخطوات. يتطلب الأمر أن تتم العملية عبر السياسات الضريبية. لذا، تصبح مسألة تمويل الخدمات العامة المجانية بالمال العام، مسألة مرتبطة مباشرة بإعادة توزيع الثروة. عندما تُفرض الضريبة، تُقتطع من الأكثر قدرة، من أجل إنفاقها على تحسين المجتمع وزيادة فاعليته. هذا هو المفهوم الأساسي لإعادة توزيع الثروة، وهو ينطبق على مسألة الأجر الاجتماعي. الأمر لا يتعلق بالتفسيرات الشعبوية عن الأخذ من الغني وإعطاء الفقير، بل هي متصلة أكثر ببنية المجتمع وكيفية تحصيل الضريبة والإنفاق منها ضمن أهداف محدّدة وواضحة. فمن خلال نقل جزء من الثروة إلى الدولة، وإعادة توزيع هذه الثروة من قبلها على شكل خدمات اجتماعية، تسهم هذه العملية في خفض كلفة المعيشة على المواطن. هناك شبه إجماع في الدراسات التي تطرّقت إلى أزمات العملة، على أن أزمات العملات تؤدّي إلى تغيّر كبير في هيكلية توزيع الثروة وزيادة اللامساواة في المجتمعات. لذا، تكون من مهمة الدولة، رسم سياساتها الضريبية عكس مسار التوزّع غير العادل للثروات. يمكن الحديث هنا عن ضرائب الربح، وضرائب الدخل، بشكل تصاعدي طبعاً، وضريبة الثروة التي تُسمى الضريبةَ التضامنية أيضاً. الضريبة هي طريقة لنقل الثروة من الأفراد إلى الدولة ثم استخدامها في تصويب مسار الأوضاع الاجتماعية. بهذه الطريقة يمكن التخفيف من عبء انخفاض قيمة الأجور عن الأجراء لتفادي أزمات اجتماعية قد تنفجر في حال بقي الوضع على ما هو عليه.



تعريف الأجر الإجتماعي
استخدم مصطلح «الأجر الاجتماعي» بشكل متواتر في المجال الصحافي. وهو يعني توفير مجموعة غير محدّدة من الخدمات العامة التي تشمل التعليم والرعاية الصحية. لا يُستخدم هذا المصطلح كثيراً في الأوساط الأكاديمية الدولية. «الأجر» هي كلمة تشير إلى تعويض مقابل أحد عوامل الإنتاج، أي العمل، وأن مصطلحَ «اجتماعي» يعني ضمناً التغطية الشاملة. هكذا يُنظر إلى الأجر الاجتماعي على أنه شكل من أشكال دخل الملكية الجماعية، بما في ذلك «الإتاوات» مقابل استخدام الموارد «السيادية» الطبيعية وغير الملموسة التي لا تخضع للملكية المطلقة. من هذا المنطلق، إن الأجر الاجتماعي يشكل جميع النفقات العامة، بما في ذلك نظام دعم الدخل الذي يدفع معاشات التقاعد والتقديمات الاجتماعية والإعانات والتنازلات الضريبية. إن فلسفات الأحزاب السياسية تعكس بشكل أساسي:
(1) الاختلافات في الحجم المناسب للأجر الاجتماعي بالنسبة إلى المكوّنات الأخرى للناتج القومي الإجمالي.
(2) الاختلافات حول المدى الذي ينبغي للحكومة أو الأفراد أن يحددوا فيه كيف سيتم إنفاق الأجر.

* من ورقة «الأجر الاجتماعي كمكوّن محدد لفلسفات الأحزاب السياسية»
ــ كيث رانكن، دكتور في جامعة أوكلاند، نيوزيلندا
* ورقة مقدّمة إلى مؤتمر جمعية الدراسات السياسية النيوزيلندية، في 8-10 تموز 1996.


اشترك في «الأخبار» على يوتيوب هنا

تابع «رأس المال» على إنستاغرام