في 11 شباط (فبراير) الماضي، أعلن المدير العام لمنظمة الصحة العالمية تيدروس غبريسوس أن وباء فيروس كورونا، الذي بات يسمى كوفيد -19، يشكل «تهديداً شديد الخطورة لبقية العالم» وينبغي أن يعتبره المجتمع الدولي «العدو رقم 1». توالت الخطابات ذات اللكنة العسكرية في مختلف أنحاء العالم، مؤكدة أن المعركة مع الجائحة طويلة، لكن مآلها الحتمي هو الانتصار. وباشرت منظمة الصحة العالمية حرباً على نطاق الكوكب ضد كوفيد-19، مستخدمة فيها مدفعيتها الرقمية الثقيلة. وهي تزعم اليوم قدرة على فتح أفق يسمح بمخاطبة الجميع، رقم عالميّ يتجاوز حاجز التنوع اللغوي لينبئ عن الأحياء والأموات وعن الرابحين والخاسرين. هل وجدت الإنسانية المسلّحة بهذه الشفرة الكونية أسطورة تأسيسية شعارها «متحدون جميعاً ضد كوفيد-19»؟ هل يمكننا أن نأمل على غرار الأكثر تفاؤلاً بأن نجد مع نهاية هذه الأزمة الصحية العالمية، إنسانيةً متصالحةً مع الطبيعة ومتحررةً من مشكلاتها السياسية والاقتصادية ومن بواعث قلقها الوجودي؟
مايكل كارتز ــ بولندا

فيروس غير مرئي ذو حدود عازلة
لكن أسطورة الملحمة، أو الابتلاء الذي تتوحّد خلاله الإنسانية جمعاء، سرعان ما تبدد أمام اختبار الحدود. من جهة، الحدود الداخلية لساحة المعركة مع كوفيد-19، حيث تُميز الأجساد المريضة عن تلك السليمة، والمحجورة عن العاملة والمهاجرين عن المواطنين، الخ... من جهة أخرى، الحدود الفاصلة بين الدول المؤسسة بمكر للتنافس بين الأمم للحصول على الأقنعة وأجهزة التنفّس، والتي تعيد تأكيد الفوارق الاقتصادية البنيوية بين البلدان الغنية والفقيرة. فملايين النازحين بسبب الحروب، يواجهون حالياً سيناريوهات كارثية. وقد تحول العالم العربي مثلاً إلى مسرح لأكبر عمليات التهجير القسري منذ الحرب العالمية الثانية، والتي خلّفت أعداداً هائلة من اللاجئين والنازحين، نتيجة للحروب الدائرة في سوريا واليمن وليبيا والعراق وفلسطين. تعيش غالبية هؤلاء في مخيمات للاجئين من دون أن تتمتع بالحد الأدنى من الحقوق أو الخدمات. إلى أي مدى سيساعد تزايد الحدود المذكورة الإنسانية على مقاومة الفيروس وعلى حماية نفسها من موت محقّق كما يدّعي خبراء منظمة الصحة العالمية؟ أول إجابة أتتنا من رئيس الوزراء المجري فيكتور أوربان: «نحن نخوض حرباً على جبهتين، إحداهما الهجرة والأخرى فيروس كورونا، وهما مترابطان لأنهما ينتشران عبر الانتقال». المقارنة المعيبة بين الجرثومة والغريب، توضح العلاقة الحميمة بين العنف والرياء، والتي تتجلى من خلال التغييب المتعمّد للجنود المشاركين في الحرب على الفيروس. في هذا الصدد، من المفيد التذكير بأن العمال الذين يقومون بالوظائف المصنّفة أساسية هم في غالبيتهم من المهاجرين الذين يقفون في الصفوف الأمامية لجبهة الحرب على الفيروس.

عندما يكون الموت حدثاً جللاً للبعض وواقعاً يومياً للبعض الآخر
شعوب الجنوب تعرف أن ما ينظر إليه باعتباره «حدثاً استثنائياً» في أوروبا، أي الموت الناجم عن الجائحة الذي يشكل تحدياً للتقدم العلمي في الغرب، هو معطى بنيوي في بقاع أخرى من المعمورة. فالموت الذي يتقبله البعض لغياب الخيارات، يطرده البعض الآخر خارج الحدود بسبب الغطرسة المفرطة. التروما الجماعية الراهنة تزعزع أركان أسطورة الحداثة الغربية وتوسعها الاستعماري - اللذين تمكنا في زمن خلا من الفصل بين المتمدنين والبرابرة، والموتى والأحياء، والإنسان والطبيعة -والتي روّجت لهما الدعاية المنظمة والمضللة لأمم وطبقات- لن يصمدا طويلاً أمام استحقاق الموت. من جهة أخرى، فإن هشاشة البنى التحتية الصحية في غالبية بلدان الجنوب تعود إلى كيفية دمجها تاريخياً في شبكات الرأسمالية العالمية. فتضافر الحداثة الغربية والاستعمار والرأسمالية وفي مرحلة لاحقة سياسات التصحيح الهيكلي المفروضة من قبل الهيئات المقرضة- والتي كثيراً ما تلازمت مع حروب وعقوبات اقتصادية ودعم لامحدود للحكام المستبدّين- كل ذلك أدى إلى تدمير منهجي لما تبقى من بنى اقتصادية في الدول الفقيرة وإفقادها الأهلية للتعامل مع أزمات كبرى كجائحة كورونا.
لا يمكن ردّ مدى اتساع الأزمة الحالية إلى مسألة محصورة بالبعد الوبائي الجرثومي أو بإهمال التحديات البيئية كما يفعل الخطاب المهيمن. هذه الأزمة سياسية وأخلاقية ووثيقة الصلة بالاستغلال التاريخي واللامتوازي لموارد الجنوب وشعوبه من قبل بلدان الشمال. في المقابل، فإن الفشل الأوروبي في مواجهة هذه الأزمة يعكس كذلك فشلاً سياسياً للدولة-الأمة ومفهومها السيادي. وما صحوة القومية وما يرافقها من خطاب كراهية ودعوات لإغلاق الحدود ولعودة السلطوية سوى أدلة على ذلك.

هل يأتي الخلاص من الجنوب المتعدّد؟
في الوقت نفسه، وبشكل يذكّر بحركة البندول، يتم تنظيم مبادرات تضامنية في أنحاء الجنوب المتعدّد. حملات للتعاون المتبادل تتشكل في الأحياء الشعبية في أوروبا، وجل قاطنيها من المهاجرين وأبنائهم، وهي بمعنى امتداد للجنوب في الشمال. الجنوب الأوروبي قدّم بدوره نموذجاً لما يمكن القيام به عندما قررت لشبونة في 28 آذار (مارس) تسوية الأوضاع القانونية للمهاجرين بما يمنح جميع المقيمين في البرتغال الحق بالرعاية الصحية المجانية. أخيراً، نشهد إحياء لتقليد التضامن الأممي من قبل دول في الجنوب. فقد أبدى فريق طبي كوبي سبق أن ساهم في مكافحة وباء ايبولا في غرب أفريقيا، استعداده لوضع خبراته بتصرف أوروبا. وفي سياق متصل، دعا الرئيس التونسي قيس سعيد في بيان رسمي صدر في 28 آذار «الوطنيين في تونس وعبر العالم لإرسال المعدات والتجهيزات الضرورية إلى الشعب الفلسطيني لمساعدته خلال الأزمة الصحية الناتجة عن جائحة كورونا».
ما يستتبع بالإجمال جميع هذه المستجدات، غير المريحة بدرجات متفاوتة، هو بكل تأكيد عملية إعادة اختراع للعلاقات السياسية السائدة بين بلدان الجنوب والشمال. فقدرات العنف والسلطة الكامنة التي تمتلكها قوى الشمال لا تعطي أي مؤشر حقيقي على قوتهم الفعلية، ولا ضمان أكيد في مواجهة احتمال أن يُجهز عليها فيروس صغير. وبهذا المعنى فإن الاعتراض الأكثر وجاهة على الحرب الحالية التي تخاض ضد كوفيد-19 لا يتعلق أولاً بمحدودية فاعليتها، بل بخطورتها كونها تحفّز المسؤولين على الاعتقاد بأنهم يفهمون مجرى الأحداث ويتحكمون به رغم أن الأمور ليست كذلك بتاتاً. لكن خصوبة غير المتوقّع تفوق بدرجات معارف الخبراء وتعلو على إرادة رجال السلطة.

* باحثة وأستاذة الاقتصاد في جامعة دوفين - باريس