لو سُئل القارئ غير الروسيّ عن أعظم كاتب روسيّ سيكون الخيار محصوراً بين تولستوي ودستوييفسكي. وقد نجد مهرطقين قلائل يذكرون تشيخوف، ومجانين نادرين يحتفون بنيكولاي غوغُل. ولكنّ معظم الروس لن يتردّدوا في إجابتهم الوحيدة: ألكسندر بوشكين. ليس الأمر مرتبطاً بشحّ أعمال بوشكين بالرغم من سنوات عمره القليلة، إذ يصل عدد مجلّدات بعض طبعات أعماله الكاملة بالروسيّة إلى 20 مجلداً، بل المشكلة في شحّ الترجمات لا في العربيّة وحسب (وإنْ كانت المقارنات مخجلة مع غيرها من اللغات)، بل في اللغات الأوروبيّة الأساسيّة أيضاً. ولو أضفنا تردّد المترجمين أمام صعوبة ترجمة الشعر، وهو مجال بوشكين الأكبر، سنكون أمام حالة فريدة في الأدب العالمي، حين تكون أعمال أعظم كاتب في لغةٍ من اللغات هي الأعمال الأقلّ وجوداً بالمقارنة مع غيره. لا يتوافر عربياً من أعمال بوشكين إلا مختارات نثريّة، وبعض الأعمال المسرحيّة القصيرة، مع استثناء فاضح لروايته الشعريّة «يفغيني أونيغن»، ولملاحمه الشعريّة، وحتّى لأشعاره الأقصر التي لا توجد إلا بترجمات عن لغات وسيطة مع استثناء أو اثنين.

ولذا ستكون أيّ ترجمة جديدة من الأصل الروسي لأيّ عمل من أعمال بوشكين فرصة مهمة لنا كي نقترب أكثر من الشاعر الروسي الأعظم الذي أسَّس للأدب الروسيّ قبل مئتي عام. ومن هنا تنبع أهميّة كتاب «ألكسندر بوشكين: يوميات ومذكّرات» الذي صدر أخيراً بترجمة محمد خميس عن «دار الرافدين»، إذ يقدّم لنا مختارات من يوميّات بوشكين من عام 1815 إلى عام 1835.
لن يجد القارئ تفاصيل كثيرة عن المشهد الأدبي الروسي، إذ لا يرد اسم غوغُل إلا مرتين أو ثلاثاً، واسما جوكوفسكي وكارامزن بضع مرات. وهذا ليس غريباً، إذ كان بوشكين المؤسِّس الحقيقيّ للأدب الروسي، وكان كلُّ من قبله مراحل تمهيديّة. نلاحظ أنّ إشاراته إلى جوكوفسكي هي إشارات الصديق للصديق أكثر من كونها إشارات الشاعر للشاعر. أما الاحتفاء بكارامزن فكان احتفاءً بالمؤرّخ لا بالشاعر. وحده غوغُل يحظى بملاحظات نقديّة احتفائيّة تخصّ الأدب، كأنّنا أمام رؤية بوشكينيّة ثاقبة ستُحدِّد لنا خارطة الأدب الروسي بعده. يغيب ليرمونتوف عن اللوحة البوشكنيّة، لكنّه يصغر بوشكين بـ15 عاماً، ولم تكن عبقريّته قد فرضت نفسها عام 1835. على أنّنا سنجد تفاصيل أدبيّة تخصّ بوشكين نفسه ابتداءً بقُصاصاته النثريّة وملاحظاته النقديّة الأولى حين كان طالباً في الليسيه، وليس انتهاءً بنثره البديع في وصف رحلاته المتعدّدة في سنوات المنفى وما بعدها التي كنّا نتمنّى لو طالت أكثر لنغوص في توصيفه المدهش للطبيعة الذي سيورثه لتولستوي وتورغنيف اللذين أوصلاه إلى ذروة عصيّة على البلوغ. في موازاة الطبيعة، سنجد البشر، حيث يدوّن بوشكين تأمّلاته أثناء انتشار الكوليرا في روسيا عام 1831. يبدو بوشكين هنا كأنّه يدوّن أيامنا نحن بعد قرنين حيث الناس هم الناس في تذمّراتهم واعتراضاتهم على الحجر الصحي، وإنْ اختلف نوع الجائحة. سيلفتنا التّطابق مع تقلّب دورات الأيام، وستصدمنا آراء بوشكين العنصريّة حيال الشركس مثلاً، كما سيستوقفنا التّناقض العجيب في أفكاره الثوريّة بين الداخل والخارج، بين اليونان التي يتوق أن تثور وتنتصر ثورتها ضد الأتراك، فيما يبدو منعدم الحماس تقريباً في روسيا، على الأخص بعد إعدام رفاقه الديسمبريّين عام 1826، بحيث تتعاظم حيرتنا مع تعاظم غموض مواقفه من القيصر، ومن السياسات الداخليّة الروسيّة.
ستصدمنا آراؤه العنصريّة حيال الشركس مثلاً


لعلّ منبع الغموض هو خوف بوشكين من وقوع دفاتره في الأيدي الخاطئة في ظل الرقابة القاسية التي تُطوِّق الجميع، أياً يكن مدى أهميّتهم السياسيّة أو الأدبيّة، حيث لا عصمة إلا للقيصر. ما يهمّنا هنا هو التوصيفات التفصيليّة التي يمنحنا بوشكين إياها عن كواليس القصور والحفلات والطبقة الأرستقراطيّة. هذه التأمّلات مهمّة لا لكونها بتدوين شاهد عيان وحسب، بل أيضاً لأنّ شاهد العيان هذا هو الأديب الروسيّ الوحيد الذي تمتّع بهذه المسافة القريبة من القيصر وحاشيته. سنقرأ عن الدسائس، وعن العفن المستشري في أوساط الساسة، وعن تقلّبات الأيام والموازين بتقلّبات مزاج القيصر، وعن الأدوار الخفيّة للنساء في صنع السياسات. يُبهجنا بوشكن وكأنّه يعتذر عن غموض مواقفه، ليقدّم لنا صورةً نادرةً عن تلك السنوات البعيدة، ويقول بشيءٍ من السخرية: «سأصف كلّ شيء بالتفصيل، ولمصلحة مستقبل والتر سكوت». لم يكن سكوت سيكترث لروسيا ولتاريخها في رواياته، ولكنّ بوشكن يدرك أنّ موقعه المميَّز والفرصة النادرة التي أُتيحت له في رؤية ما لن يعرفه غيره سينفعان كثيرين آخرين غير سكوت في إعادة رسم صورة روسيا النصف الأول من القرن التاسع عشر. ولا بدّ هنا من الإشادة بحواشي المترجم الكثيرة التي تُعرّفنا بمتاهة مُدوِّخة من الأسماء الروسيّة التي لا نعرف عنها شيئاً، والتي ربّما سنعرفها أكثر فأكثر مع تعاقب الترجمات عن الروسيّة التي نشطت في العامين الماضيين بسرعة مخيفة أحياناً.
لا نلمح أدنى خوف لدى بوشكين حيال مستقبله، وكأنه كان يظنّ أن العمر سيمتد به طويلاً، بالرغم من لحظات طيشه الكثيرة التي كادت تودي به. نقرأ سخريته في 9 نيسان (أبريل) عام 1821 من ضابط فرنسيّ سابق تهرّب من مبارزة معه، فنحسّ بالألم لأنّ مبارزةً أخرى ستحدث بعد 16 عاماً مع ضابط آخر لم يهرب، وسينجح في قتل بوشكين قبل أن يبلغ الأربعين. ليس الخلود بالسنوات الطويلة حتماً. هذا ما يدركه بوشكين رغم طيشه، ويُدوّنه لنا في نصّ جميل هو «حوار تخيُّليّ مع القيصر ألكسندر الأول»، حيث يبدو بوشكين دليلاً نقدياً لأعماله، حين يعاتب القيصر على الاهتمام بقصائد عابرة بالرغم من جمالها، وتناسي أعماله الأهم: «رُسلان ولودميلا»، «أسير القوقاز»، «نافورة باختشيساراي»، وحتماً «يفغيني أونيغن». أطلق بوشكين نداءه حيال أعظم أعماله قبل قرنين، ولعلّنا نراها بالعربيّة قريباً، كيلا نكرّر خطأ القيصر.