الحب هو سير على حبل مثلما يفعله المهرّجون، تفرجوا على اللحظة التي يحدث فيها فقدان توازن _ طبببببب، ثم النهاية! مهرّجو الحب كلهم فاشلون، يسقطون في آخر الأمر، الحب هو الشيء الذي يسقط بسببه شخص من مكان عالٍ في بحيرة صغيرة مليئة بالحيّات، أو حفرة عميقة مظلمة. جبار الحارس مثلاً، مسكين فعلاً، أرى الرغبة دائماً في عينيه، نظرات ليس فيها سوى الجوع الذي يصيب العينين بالحول، كان من الممكن أن أجعله يركبني، لن تضيف ولن تنقص مني عدة «رهزات» قبل أن يقذف السم الذي يتعب قلبه ويعمي عينيه، لكنني عاملته بصرامة، وضعته على الخط الذي لن يستطيع تجاوزه ولم أمنحه فرصة أن يضع «قضيبه المتحفّز دائماً في حفرتي». أتعرفون لماذا؟ لأنه حشرة أخرى، مللت رائحة الحشرات! وعلى الرغم من ذلك لست محصنة تماماً من السقوط، أنا حذرة لكني لست محصنة. لقد حدث هذا مع شاب دخل مرة البيت الذي كنت أديره بعد أن ترفعتُ إلى مستوى قوادة، كان يرافقه آخر أعرف أباه جيداً، سألته عنه وتحدثنا قليلاً، وأبوه كان ضابط شرطة سابقاً قبل أن يصدأ «سلاحه» ولم يعد صالحاً سوى للبول، زبون دائم عندي، وهو رجل تافه يحب البنات النحيفات الصغيرات.
تولوز-لوتريك ــــ «في صالون شارع الطاحونة الحمراء» (زيت على قماش ـــــ 1894)

كلهم في الحقيقة يحبون الصغيرات ولا تفسير عندي بخصوصهم سوى أنهم مرضى وشاذّون. ابن ضابط الشرطة القديم، اختار إحدى البنات، جرّته من قميصه ودخلا إحدى الغرف. الشاب الآخر ظل لخمس دقائق ينظر إلي، استعجلته: يله فضنا. قلت له يجب أن يختار بسرعة، فهو ليس في صالة سينما، أو في حديقة حيوانات، وأفهمته بنبرة جادة بأني لست قرداً، وأن عليه اختيار واحدة من البنات، أن يدفع أولاً، ويذهب لكي «يرهز» ثم يقذف ويمسح. قلت له إن المناديل الورقية متوفرة في الغرفة، وإن «المرافق» هناك في الزاوية، فلا بد أن يتبول الخارج من غرفة العرس، قبل أن يغادر البيت، وإن هذا المكان ليس فندقاً، حذّرته من القيام بالحركات الصبيانية، يوجد شخص لا بد أنه رآه في الخارج عند الباب، وعليه في هذه الحالة أن يختار بين تحطيم عظامه أو أن يكون عاقلاً. قال إنه جاء من أجلي، من أجلي فقط وليس من أجل الجنس، جاء لكي يتمتع بسحر وجهي، وإنه رآني يوماً في السوق مع بنت صغيرة. سأل عني وأخبره صديقه، هذا الذي دخل الآن بأنه يعرفني، قلت له بأني بعيدة عن هذه الرومانسيات، تركت مشاهدة الأفلام إلا في حالات خاصة، لقد ترقّيت إلى رتبة أعلى.
عاد مرة ثانية بعد أيام، جاء ولم يختر بنتاً أيضاً، في داخلي شعرت بالرضا، لا أدري لماذا! كان شاباً وسيماً ومهذباً، جسده حلو، وصوته عذب. وبالصدفة رأيته في العشار بعد أسبوعين من اللقاء الثاني، ابتسم وبادلته الابتسامة، وقفنا وتكلمنا لدقائق، التقينا بعدها مرتين تمشينا فيها على الشط، أكلنا سندويشات فلافل. في اللقاء الثالث، قال إنه ذاهب لحضور مسرحية في مبنى الجامعة. بالنسبة إلي وطوال عمري، لم أذهب لحضور مسرحية، شاهدت بعضها على التلفزيون، أحب أن أضحك، أحب المسرح بشكل عام، لكني لم أشاهد ممثلين وجهاً لوجه على الخشبة. دخلنا والممثلون كانوا - كما قال لي - طلاباً، والمسرحية - كما شرح لي - سياسية، ولا أدري من أين جاءت الجرأة لأولئك الطلاب أن يمثلوها، فيها كلام عن المقاومة السرية وعن الثورة على الظلم. هكذا سمعت وسألته - عندما خرجنا - عن المغني، الممثل الذي كان يرفع صوته في الشارع، أقصد ديكور الشارع على المسرح وهو يقول: الدم يطهّر النفوس، يغسل العار.
في الفصل الأخير كانت المدينة تتعرض للقصف، يخرج الفقراء ويهجمون على المحالّ الغالية، ملابس وأحذية وحلويات، طعام، أثاث وحتى أحذية وملابس داخلية. الشعب يتمرد. القتال يصير في الشوارع، تماماً كما حدث عام 1991. المهم ليس هذا الموضوع، لقد أعجبني الشاب وشعرت بشيء داخل قلبي وفي جسدي لم أجربه منذ زمن طويل، أو أني لم أجربه أصلاً. كان شاباً مثقفاً وخفت عليه، قلت له: أنا أكبر منك بكثير، ومهنتي تعرفها جيداً، لكني مقتنعة بحياتي التي تسير بهدوء بدون عواصف. أنت طالب وشاب وسيم، المستقبل أمامك، وأعتقد أنه من الأفضل لك ولي أيضاً أن لا تراني ولا أراك. بصراحة، كان بيني وبين الحفرة شعرة! ما أنقذني هو الوشم الذي على زندي اليمين والحيّة التي على اليسار. نحن البشر، نساء ورجالاً، مهما شعرنا بالقوة، نحتاج أن نسقط على كتف، هذا صحيح وعادي، لكن على كتف يتحمل سقوطنا، لأن أجسادنا ستكون ثقيلة من شدة التعب، وكتف ذلك الشاب كان ضعيفاً. دعوني أعترف أني خفت عليه، لو وضعت رأسي على كتفه حينها لسقط وسقطت معه. بعدها لم أجد كتفاً أو أني لم أبحث، أو لم أهتم، الحقيقة أني لا أجد الرغبة سوى بوضع رأسي على وسادتي وأنام بعمق بدون أحلام. أريد أن أموت من دون أن أترك خلفي أثراً لحلم متعفّن. أموت واقفة لأنني أعتقد أنّ كل كتف نسقط عليه، هو في النهاية دليل على ضعفنا. لا أريد أن أضعف حتى إني أشعر أحياناً بروح عزرائيل تتحرك في داخلي. يقولون إن الله خلقه برجلين على الأرض وبرأس في السماء، وله أعوان بعدد من يموتون. أنا واحدة من أعوان عزرائيل، نعم أنا التي قتلتها، فصلت روحها عن بدنها. صحيح أنّ زمناً طويلاً مرّ على ذلك لكني أراها، أفزع في الكثير من الليالي فأراها كأنها لم تمت، أرى مريم بوجهها القديم نفسه واقفة في وسط الغرفة فأرتجف من منظرها القاسي لأنها تظهر كأنها خرجت للتوّ من القبر. وقتها، لا أعرف: هل أصابني جنون أم أنا في كابوس، هل في صحو ما أراه أم في نوم، لكني أرى السكين في يدها، طويلة تلمع في ضوء الفجر، وفي عينيها ضغينة وغضب. عيناها كبيرتان لكنهما مثل حفرتين من تلك التي تخلفها الصواريخ في الأرض عند سقوطها. تنظر إلي وفمها يسيل منه دم أسود، لسانها أسود طويل جداً يتدلى خارج فمها وأسنانها سوداء. تقول: انهضي أيتها القحبة، انهضي جاء يوم الحساب. وفي الضوء القليل الداخل من شباك الغرفة، أقول لنفسي إنه الوقت المناسب للهرب قبل أن تبزغ الشمس، ولكن أين سأهرب، كيف يهرب الناس من الموت، كيف سأهرب من وجهها المرعب وجسدي مخدّر من الخوف، من السكين التي تكاثرت فصارت عشرَ وعشرين ومئة سكين. الغرفة كلها صارت من معدن يلمع بوجهي، وصوت حية أسمعه يهز قلبي، صوت حية أو صوت مريم، يشغلني في أثناء ذلك شيء واحد هو أن أهرب، أريد أن أتلاشى، أغيب عن وجهها الملطّخ بالدم، عن شعرها المنكوش المخيف، فلا أسمع صوت الحية الذي يخرج من عمق حنجرتها، من كلماتها التي تضرب صدري: قومي، قومي يا بنت الحرام، يا عار، قومي لقد جاء يوم الحساب!

(*) مقطع افتتاحي من الفصل الأول من رواية «قصر الصبّار»، الصادرة حديثاً عن «الآن ناشرون وموزعون» ــ عَمَّان.
(**) العراق/ بروكسل