ماذا لو انحرفت بوصلة نوبل للأدب فجأة باتجاه الشمال الذي أتى منه سليم بركات (1951)؟ من ناحية، المسألة جغرافيّة في المقام الأول، ذلك أن مكان إقامته الآن لا يبعد سوى أميال عن الأكاديمية السويدية في استوكهولم، وهو ما يخفّف من وطأة الخروج من صومعته والصعود إلى منصّة التتويج، ولن يجد بالطبع صعوبةً حقيقيةً في إلقاء خطبة نارية عن أحوال «الكردي العابر بنعالٍ من ريح»!

من ناحية ثانية، لن نجد مأزقاً في النظر إلى القامشلي أو عامودا بوصفها «ماكاندو» أخرى؟ على الأرجح «سنتسابق» جميعاً إلى احتضان هذا الروائي الذي لم نكترث بتجربته على قدر ما تستحقه من تبجيل وانتباه، وسنتخلى عن العبارات الجاهزة التي ركن إليها النقّاد طويلاً بخصوص الألغاز التي يحتشد بها معجمه النافر، إذ ستتحوّل دهاليزه وهذياناته ومتاهاته اللغوية إلى فضائل. على الأرجح، فإن الكسل النقدي وضع هذه المغامرة السردية المتفرّدة في قفص زجاجي مغلق، مكتفياً بإلقاء التحية العابرة على هذا «الكبش النطّاح» خشية العراك معه، ثم الانصراف إلى شؤون روائية لا تحتاج إلى مشقة في فحص جيناتها. وإذا بحكّائي المضافات يتفوقون على ما عداهم في تحريك رماد المواقد المطفأة. صحيح أن بعض أعمال سليم بركات تسرف في النأي عن الذائقة العمومية بانغلاقها على ذاتها واشتباكها مع ميثولوجيا كردية عصية على التداول العمومي، وربما مضجرة أحياناً، بالنسبة إلى القارئ الطارئ المرتهن لروايات التسلية ومصادفات الجوائز، لكنّ أعمالاً أخرى له عملت على استعادة الأمكنة الأولى والبيئات المهملة بألق متفرّد، كتلك التي وردت في سيرة الطفولة، وسيرة الصبا، المحمولة على فكاهة العيش في العراء.
في هذا المقام تحضر روايته المتأخرة «هؤلاء الصغيرات وأكياسهن الورقية» إذ يضيء حقبة الستينيات من القرن المنصرم في القامشلي، مراقباً يوميات فتيات مراهقات يعملن في جمع أكياس الإسمنت الفارغة، وتحويلها إلى أكياس ورقية صغيرة، وبيعها لأصحاب الدكاكين. مناوشات تديرها شخصيات بأسماء محليّة خالصة: زلفو، هدلا، كميلا، سبحان، فوزو، سردار، و«دجاجات كثر، بقرة واحدة، معزاة واحدة». ما يبدو لوهلةٍ أنه بالكاد يصلح لبناء قصة قصيرة، سيتناسل إلى فضاء أوسع، وبهندسة جمالية تعمل على استدراج المتلقّي بوصفه صياداً وفريسة في آنٍ واحد، إذ يتتبع الراوي تاريخ الإسمنت وكيفية تحويله داخل الفرن إلى مسحوق آخر، ثم يتوغل في تاريخ الأفران نفسها وطهي اللحوم، واكتشاف النار، ثم يلتفت إلى تاريخ الأكياس، إذ وجد الإنسان القديم أن الجلد يمكن تحويله إلى صُرّة تتكفل بجمع المتاع الفائض من الثمار، ثم جعبة للسهام، ثم قربة لحفظ الماء، ثم استثمار قصب الأنهار في صنع السلال، ثم اكتشاف القنب في نسج الألبسة. بمثل هذا التوالد السردي المحموم والمتوتر يناوش صاحب «هياج الإوز» التاريخ بتحديقة معرفية عميقة تتكشف عن سرد مدهش، كأن تتحوّل الدجاجة إلى درّاجة هوائية في مخيلة إحدى الفتيات! هكذا أُهملت روايات أخرى لصاحب «فقهاء الظلام»، أو أنها عبرت بتقارير صحافية خاطفة أقرب إلى الواجب المدرسي، مثل «زئير الظلال في حدائق زنوبيا»، وروايته الجديدة «مفاتيح الانتحار الإحدى عشرة، وقياس المراوغات في أحوال جلال الدين الرومي» (المؤسسة العربية للدراسات والنشر). ربما كان على أليف شفق أن توقّع هذه الأخيرة باسمها كي يتخاطفها قرّاء العربية باعتبارها وصفة روحية. ولكن مهلاً، متى اشتكى سليم بركات من مفاعيل العزلة التي اختارها بنفسه في منفاه الاسكندنافي؟ دعوه إذاً، يلوّح بسكاكينه البلاغية بشفراتها المسنونة من نافذة مطبخه يطهو رواياته بفقه لغوي لا يشبه سواه.