لم يغادر الشعراء من متردّم، ولا يزال صوت الشعر ممكناً فوق الأرض العربية الملفوحة بالنار والمآسي والحروب والهجرة، ولا تزال إشراقات النور تغمس أنفاس الشعر في حناجر الآلهة، وتخرجه لنا مائدة من التوت ورسولاً في الأرض ودليلاً للعاشقين، وتبحث عن «دمه الأزرق لنهتف باسمه كالخيول الخفيّة»: «إشراقات» عنوان سلسلة جديدة تقدم أصواتاً شعرية عربية، اقترحها ويختار نصوصها الشاعر أدونيس الذي يواصل مشروعه الشعري والفكري الرامي إلى زحزحة المياه الراكدة في الثقافة العربية، واستخراج لؤلؤة الشعر من محارته العميقة. هي سلسلة «مُغلقة» كما وصفها المنشور الذي يعرّف بها، تصدر عن «دار التكوين» (الشارقة) خلال مدة زمنية محدودة، قد لا تتعدى السنة الواحدة، وتصدر بمنحة خاصة من «مؤسسة غسان جديد للتنمية». في نهاية الشهر الحالي، تصدر الدفعة الأولى من الدواوين الشعرية ضمن سلسلة «إشراقات»، بأصوات نسائية مميزة: «كتاب الجسد»، للمياء المقدم، و«غزالة تعرج نحو منفاها»، لناريمان حسن، و«غناء في الطريق إلى المقبرة»، لآفين حمو، و«غوايات كاهنة الضوء»، لمريم الأحمد. إلا أن الرؤية خلف المشروع الذي تشرف عليه أرواد إسبر، ليست جندريّة بالمطلق. إذ إن الدفعة القادمة ستشمل مجموعات لعدد من الشعراء الشباب مثل «يسحق رأسه بحجر الذكريات» لبلال المصري، و«الماكنة» لعلي العطّار، و«سهرة القفز عن الريح» لعلي حمام، إضافة إلى صوت نسائي جديد يتمثّل في مجموعة «امرأة الوقت» لمها العتوم. إنها رؤية أوسع تتقاطع مع مشروع أدونيس الحداثوي الإبداعي الذي انطلق في بيروت في فترتها الذهبية في ستينيات القرن الماضي بالنظر إلى «الشعر بوصفه حياة وحرية وحُبّاً، هو ما تؤسّس له اليوم الشاعرات الشابّات وعدد قليل من الشعراء الشبّان، وتلك هي ظاهرة فريدة في تاريخ الإبداع الشعري العربي». تتنوع البنية الأسلوبية للمجموعات المختارة ما بين السرد المسترسل والتجريب والكولاج والصور السوريالية والكتابة الحسية والفكرة الفلسفية. إلا أن ما يجمع بينها هو ما كتبه أدونيس في تقديمه لها: «تبدو هذه الكتابة الشعرية كأنها تجيء من أفق آخَر: أفق الذاتية المتحرّرة من جميع السلطات الكابحة، وأفق الكينونة المنفتحة على الأعماق والأبعاد المجهولة، وعلى الأسئلة المهمّشة أو المطموسة، اجتماعياً وثقافياً وسياسياً، إضافة إلى المكبوت نفسياً وجسديّاً، مصيراً وبصيرة ومخيّلة. وفي هذا ما يتخطّى خريطة الكتابة الشعرية السائدة، ويرسم خريطة جديدة لشعر كينونيّ، استشرافاً لعالَم عربي جديد، وثقافة جديدة، وجمالية عربية جديدة، وجمالية عربية جديدة، وإنسان عربي جديد وخلّاق». أما «دار التكوين»، فلخّصت رؤيتها كشريك في المشروع بأنّها «منذ تأسيسها عام 2000، وقفت إلى جانب الشعر والشعراء، وشجعت أصواتاً شعرية جديدة لها حساسيتها الخاصة، وأطلقت «جائزة الديوان الأول» عام 2009 التي استمرّت حتى عام 2014. فكان من الطبيعي لها أن تدعم مشروع «إشراقات» وتنضم إليه».
وفي ما يخصّ الرؤية التصميمية والفنية للمشروع، فقد أشرف عليها التشكيلي السوري المعروف أحمد معلا. يلخص المنشور التعريفي بالسلسلة حماسته للتجربة التي تُدخل الفن إلى روح الكلمة ومزج الأشكال الإبداعية وتفاعلها فيما بينها: «أقترح العودة إلى التربيعة الأولى، إلى الحد الأدنى الأكثر تقشفاً لصياغة شخصية غرافيكيّة لأغلفة مجموعات شعرية. شطرنجية محكمة، تتهندس في المخيّلة لترسم أسماء الدواوين والشعراء، وتتحرك الحروف واتصالاتها أو انتقالاتها بما يتناسب والفضاء المتاح، أو بما يمليه التفنّن في تشكيل جسد الكلمة. المربع هو الوحدة الهندسية الأولية التي ستكوّن بتكرارها وقيادتها عبر الشاقولي والأفقي، مفردات الأغلفة تشكيلياً. وهذا ما سيعطي للمجموعات هوية بصرية واحدة، فالإطلالات تكاد تتساوى وتتماثل في محاولة لتقديم تجاربنا الشعرية بعدالة ودونما انحياز إلا للشعر». نعرض في «كلمات» باقة من سلسلة «إشراقات»، لنمضي مع الشعر إلى البعيد كما يقول أدونيس، ربما لا نصل لكن نضيء.


1- «غوايات كاهنة الضوء»
مريم الأحمد

I- على ظهري صخرة
هل تعيرني من قلبك معجزة
لأعبر نهراً يُقال إنه حياتي
لكني أقلب النهر رأساً على عقِب
وأنبش رمل خطواتك
أقرأ مليون سطر
ويبقى شلالك الضوئي صافعاً قلبي
يا للعار! هل يعقل أنّ الكدمات على وجهي
تجعل منّي الشاعرة الأجمل؟
هل يُعقل أن أتتبّع ما يأتي ويروح من ماء
لألقى معجزة وجودي أمام هذا النهر
وعلى ظهري صخرة.

تولى تصميم الأغلفة التشكيلي السوري المعروف أحمد معلا


IIـــ زيارة غير متوقّعة
أخاف أن أرجع إلى البيت ذات يوم
وأجد أبي وأمي بانتظاري
بوجهين مكفهرّين، وخائبَي الأمل.
أبي يتصفّح ديواني اليتيم،
أمي تتأمّل دفتر مذكراتي.
يقول أبي: ما هذه الكتابة يا ابنتي؟
أتسمّين هذه الثرثرة شِعراً، ألا تستحين؟
رحم الله أيّامك يا امرؤ القيس، ويا متنبّي!
وأمي تفرد حياتها الشخصية في حضنها وتجهش!
ولا شيء عليه القيمة ولا عَمل خير
كل ذكرياتك استيقظت، أكلت، شربت، نعست، نمت،
كتبت، علّقت، أعجبت، نشرت.
أين مساعدة المحتاجين؟
أين إعانة الفقراء وإغاثة الملهوفين؟
أين العمل الطوعي؟ كل هذا صفر... صفر...
ما هكذا ربيتك يا ابنتي
أريد أن أبلع ريقي ولكن أغصّ.
أريد أن أقول الحقّ عليكما
لكن أختنق. ثم يختفيان
هكذا بكل بساطة
مثلما اقتحما بيتي من دنيا الغياب.

III ـــ لو لم يكن اسمي مريم
كل المشكلة أنّ اسمي مريم
مريم اسم حزين ومنكفئ على جوهره
مريم اسمٌ تخطفه السواقي الضالّة
تلتقطه المرايا المتوجّسة
لو كان اسمي زينة بتاء مربوطة كبيرة
تاء دائرية تنفع أن تكون شمساً
أو ثقب أوزون ناعماً ولطيفاً
أو سعاد بحرف سين زلق وسعيد
ينغمس في دخان جامد لسيجارة النشوة الأولى!
ويتبخّر نشوان
أو كوثراً بحرف ثاء غنيّ مضيء
يزهر ظلالاً سماوية غامرة.
المشكلة أنّ اسمي غارق في الحزن والخيبة
ومحفوف بمِيمَيْن ملفوفتَين بحذر
ولُزوجة كائنات هاجعة تحت القشب الأخضر
لو أنّ لاسمي ياءً مائية
كما في اسم يارا أو ياسمين،
أو عيناً عابرة للمسافات تقارع عنفوان الوعول كما في اسم علياء،
أو كافاً بسقف مائل قرميديّ الرؤى مثل اسم كاميليا،
المشكلة أن اسمي مريم وليس عفاف أو ناديا أو مروى
اسمي مستبدٌ بقلبي ولا يهبني
إلا تلك الشمس الجانحة نحو المغيب.

مريم الأحمد (1969) شاعرة سوريّة، تخرّجت من كلية الإعلام ـــ جامعة دمشق ثم درست الأدب الإنكليزي في «جامعة تشرين». «غوايات كاهنة الضوء» هو ديوانها الأوّل.

2- «يسحق رأسه بحجر الذكريات»
بلال المصري

I- التحفة
كيف أتأكّد
أنّ اللغة هي التحفة
في أرياف الروح؟
أنا أشكّ
أنّ المباني التي تتدلّى منها الشرفات
كأقراط نساء عمّرت طويلاً
هي المدن
بل الجسد هو المكان الأصليّ
الذي ولد فيه الزمن.
أحياناً أشعر
أنّ الأرض لقمة في فم الكون
هذا الكائن المفترس
الذي ينمو دون توقّف
كأنّ الجنّة
هي البحث عن العدم النقيّ
وأنّ الاكتشاف ليس دليلاً على المعرفة
بل هو الجحيم
الذي ينهض من الأسئلة.

IIـــ الساحر
أخرجَ من قبّعته مطرقة
دقّ أصابعه العشرة
حتّى صارت أشجاراً متوحشة
تعضّ القمر
بينما الناس يشهقون.
حوّلها إلى سحابة
تذرف مطراً
وقبل أن يلمس الأرض
صار الماء فراشات
حملته وطار بعيداً
ثم عاد في يده مسدّس
صوّبه نحو رأسه
فسقَطَ أرضاً ثمّ نهض
والناس يخفون وجوههم
براحات أيديهم
لكي لا يروا
كيف من شدّة الجوع
يأكل نفسه
حتى اختفى تماماً
وهم يلتفتون من حولهم
صارخين:
أين هو، أين هو؟!
هذه الألعاب المجنونة
تكشف أنّ الخدعة الحقيقية
يتقنها المتخمون
وليس مجرد ساحر جائع
لا يقدر أن يحوّل
عذاباته إلى رغيف خبز.

IIIـــ نضوج
تنضج في رأسه فاكهة الشتائم
قلبه ينتفخ مثل رغيف خبز
بينما أعضاؤه تذوب
في قارورة الشكّ.
هل أعمدة الدخان هذه بيتي؟
أم أنّني بعد قليل سأختنق
وأنا أبلع جرّافة تشقّ طريقاً؟
بينما الناس تنعس
يستيقظ البرد ويحلّ السلام
الذي أنتظره طويلاً.

بلال المصري (1974) شاعر لبناني يعيش في طرابلس ويعمل في «مركز أكاديمية دار الثقافة»، بيروت.


3- «كتاب الجسد»
لمياء المقدم

قال الفم:
يؤلمني الحب. القبل التي نسي أصحابها أن يدفنوها قبل أن يغادروا. تتكوّم الشفتان كأجوبة جاهزة مع أنّ ما يسكنني ويحرّكني هو السؤال الذي في الداخل، لكن سعادتي متأتية من تخيّل أنّ وراء كل شيء أحجية معقدة تربطها ببعضها البعض، وأن ما يشد الشفة إلى الشفة هو الرغبة في التجريب. يتعارض داخلي مع خارجي، وكذلك كنت.
يوم ولدت الصدفة، كان نهران يمشيان إلى بعضهما، وأغرقا العالم في الضباب والرطوبة. مدينة صغيرة كانت تشاهد ما يحدث مدعية الحياد، وسكانها يمرّون على دراجاتهم كأنّهم قناطر متهدّمة يجرها الماء. لا شيء حدث بالتحديد، ليس في الزمن، ولا خارجه، ليس في المكان ولا في الفراغ. الصُدفة لا تعتبر حدثاً حقيقياً بمفهوم الأفعال أو بمفهوم العدالة. إذا ولدت الصُدفة في مكان ما فهي ابنته وحده، وكل صدفة هي ابنة مشردة في مكان ما من العالم، وكل تقابل بمحض الصدفة هو موت بمحض الصدفة نفسها.
■ ■ ■

كيف تخرج القصص إلى الواقع إذن؟
لا بد من قتل الصُدفة وتحويلها إلى جثة يراها المارون ليل نهار، في طريقهم إلى عملهم. ولا بد من رائحة كريهة تجوب الأرض وكلاب وذباب. ولا بد من أحدهم يبكي أعواماً بلا توقّف تحت قدم الجثة، ولا يتركها إلا ليتغوط أو يقشر اللبّ. ولا بد من أغنية وأشعار وشائعات.
ثمّ، وقبل كل هذا، لا بدّ من قاتل محترف.
■ ■ ■

قال القلب: في كتاب أصيل كنت سأكون الحزب الشيوعي الذي يدافع عن الفقراء، العلم الأبيض الذي يرفعه اللاجئون وهم يعبرون حدود الزمان والمكان، الفقرة الأساسية في نشيد أو أغنية تمجد الحياة على كوكب الأرض.
وفي سيرة الوقت كنت سأكون المركب الصغير الذي أوصل الجميع إلى الضفة من دون أن تغرق منهم قشة، أو يسقط من كيس صبية أحمر شفاه في البحر.
ولكني هنا، وفي هذا السياق، أريد أن أخبركم أنّني دائماً ما تمنّيت أن أكون عجلة مطاط، بالوناً في الهواء تتقاذفه الرياح، حذاء في فم كلب.
تمنيت كل هذا ومن التمني نبتت قنوات أوصلت داخلي بداخل كل حي، وربطت بين مسامي ومياه الأرض. كنت رخواً طرياً، وبعد محاولات عديدة، تعلّمت أن أحلّ محلّ القذائف في الحرب والفيروسات في الأوبئة.

لمياء المقدم، شاعرة ومترجمة تونسية تعيش في هولندا، عملت كصحافية ومقدمة برامج في إذاعة هولندا ومترجمة في المحاكم الجنائية الهولندية، فازت بجائزة الهجرة الأدبية في هولندا عام 2001


4 ـــ «الماكنة»
علي العطّار

Iـــ كيف تُصنع الماكنة
دهنوني بالعنب وأنا أتحلّل بين أيديهم وأبكي. تأتأتُ في انتقالي من النقصِ إلى جسدٍ مزمنٍ ومغشوشٍ والصارخون في أذنيّ من حولي يخبرونني بأنني ممسوسٌ وتائه. كنت معدوداً من الموتى وكان الموتُ وكانت الحياة فيّ.
وحتّى وهم يسقطون لحظة لمسِهِم عنّفوني وسالت أرواحهم متهشّمين بالأرضِ فانغلقتُ على الطين.
لفّوا الآدم في طينه بأوراق العنبِ شرنقةً علّقوه وداروا حول كتلته.
يرتقي قمرٌ يفضح شبّاكها
جفّ ريقي وعلا فجر الحُمّى عينيّ والسيف يحشو جسدي.
■ ■ ■

شيّعت موادي وهشاشتي وتطوّر السبكُ لأكون وعاءً يحمل ثقل الشفاه النحيلة في الدخول إلى عقل من قال قولتهُ وصار بلا أجنحة سيفيّةٍ أعالج حنين الفخار وهو يُكسر مثل الحنين إلى الخمرِ والذّلة والهياكل إن دجّنوها ستحمل سيقانها وتسيرُ.
عرضتُ على الماء قلت ماءً على النارِ والنومِ قلت ناراً ونوماً عرضتُ على الماشي بساقٍ وساقين وأربع وأُطفئتُ بالجمرِ كان
جلدي ممراً لسير القبائلِ للضائعين يحميهم قمرُ البرتقال
كان جِلدي غطاءً يمنحُ الليل سكَّانه
عرضوني على جسدي
لم أقل كلاماً واكتسب الغيبُ أسنانه وأسناني تصنعُ البردَ وأصابعي تتلمس تراثَ الجلد والرقصِ والفقد وأي خرمٍ بسيطٍ في مسلة النومِ يفقدني رأسي
الأصابعُ لاحت الأصابعَ وسقط الجلدُ على الجلدِ
وزُيِّفَ معنى الحرارةِ
هكذا خُلقَتِ الماكنةُ من جسدي.

علي العطّار (1996)، شاعر عراقي ولد في الكوفة وتخرّج في كلية الاقتصاد والإدارة ثم في كلية الآداب قسم اللغة الإنكليزية وأسّس مع مجموعة من الأدباء الشبّان «نادي الأدب الحديث».

5- «غناء في الطريق إلى المقبرة»
أفين حمو

Iـــ أيّها الشِعر
عبثاً حاولت الاستشفاء بالشعر
تعرّيتُ أمامه
أخذتُ بيديه ليمرّرها على مواقع وجعي
وندوبي
حاصرني كشيطان
تركَ لظبيته على طول الطريق
أوراق الخسّ وحبّات البازلاء
ليغريها بصعود الجرف
ليسقطها مثل حصاة هائمة على وجهها،
تاهت عن نعيم الجنّة!

أيها الشِعر..
يا نقيّ عظامي
أشفع للبهاليل حماقاتهم
ليلتقطوا ذرّاتك
وينثروها فوق أوراقهم
أترك لهم بعض الضوء على طرقات الغيّ.
اقترب أكثر أيها الدليل
مكانك هو السماء التي تومض بدمك
والأفلاك التي تتهاوى كما الشُهُب تحت سكون تنفّسك
كل كلماتك أناشيد
فانظُر إلى العذوبة التي تغمر السفح بقمح نشيدك
وانظُر إلى المعذَّبين والمشرَّدين كيف يداعبون صدرَك
بشعاعٍ من الشفاء والأمل
فلتبدأ الصباحات
بغمس أنفاسكَ في حناجر الآلهة
كي يتدلّى من السماء لهاثُكَ كثمَر
فتشدّك الأرض إليها مائدة توت.
أيها الشِعر
يا رسول الأرض
يا دليل العاشقين
اُنثُرْ علينا من دمكَ الأزرق
حتّى نهتف باسمكَ كالخيول الخفيّة.

IIـــ زهرة خشخاش
خيط واهن
يفصل الحقيقة عن الوهن
بين السماء الصافية والبحر.

لم أفهم أبداً كيف يضيّع الإنسان نفسه
بين مرآة يومه والأشياء الأخرى
لماذا لم يحظَ بنفسه مثلاً
كقاربٍ يُبحر بأزهار الخزامى
أو زهرة بين الأصداف
أو رجل مثقل بالعصافير؟

ما أحتاجه فقط
خيطٌ واهنٌ لا لأغادر به
أو أعيش فيه كهذه القصيدة
ليس لصيد الأفق
أو التقاط اسم أسفل الصفحة
أو لربطِ رسغي بشاش أبيض
إنما لأرى كثافة السماء
ولأرى البحر كماسة زرقاء كبيرة
وأنا أجلس على أرضها
أعيد الأموات إلى داخلها
وكأنني أجمع أزهار الخشخاش.

آفين حمو: شاعرة كردية سورية، من مواليد ريف القامشلي. تركت دراستها الجامعية بسبب الحرب والأزمة السورية. حرّرت ملفات أدبية عدة عن الشعراء الكُرد السوريين.


6- «غزالة تعرج نحو منفاها»
ناريمان حسن

Iـــ منافي الغزلان
الشجرة البعيدة
التي زيّنتها الأجيال كلّها بالأماني
تمّ اقتلاعها
وهُجرَ المكان بطريقة موحشة
حتّى أضاعوا مكانها
البارحة
انت امرأة حزينة
تحمل بيديها كفناً دامياً
لحبيب أضاعته
ولأنها عاجزة عن الإتيان بأشياءَ تبدّد التعب
نصَبَت جسدها هناك عوضاً عن الشجرة
وتركَت الكفن المقدّس أرضاً
لتتزيّن كلما علّق أحدُهم أمنية جديدة.
■ ■ ■

اِطوِني تحت ذراعك أيها الحُبّ
اِصنَعْ لأجلي
بيتاً آمناً
وامنحني هويةً وإقامة
وغُضَّ بصَرَكَ عن علاماتي الفارقة
كان السمّ في يدي بينما ظنّهُ الآخرون
في قلبي.
■ ■ ■

أحياناً، حين أكون سعيدة
يخفق في صدري قلب عصفور صغير،
وذراع وردية تخفق بودّ
أحدد بدقّة، كم أنّ الحياة صغيرة ورائعة
لقد أخطأ في وصفها
كلّ الحزانى
أحمل كلّ النظرات العابرة في داخلي،
أنظُر عبر الأفق البعيد
أستشعر النسمات الدافئة التي تبدّد غيوم الأزمان العابرة
وأحزانها التي ورثناها دون دراية.
وأحياناً أخرى، حين أحزن أجد الحياة مجرّد قبر
أعاني فيه من التخمة
ولهذا لا ينفكّ ينهار فوقي، يسلب أنفاسي وطمأنينتي
أجِدُ أنّ قوتي،
وخفّة أجنحتي تتلاشى
أنهارُ ولا أكاد أحتمل شيئاً حتى الضحكات.

ناريمان حسن (1997)، شاعرة سورية من مواليد عين العرب. تعيش الآن في تركيا.


أدونيس: منعطف تاريخي في القصيدة
نورد هنا مقتطفاً من مقدّمة أدونيس في تعريف سلسلة «إشراقات»: «سفرٌ يخلص الشعر من الثنائية الثقافية التقليدية: الجسد/ الرّوح، ويفتح فضاء الكينونة التي لا تتجزأ. تفكّر وتكتب فيما تحسّ وتحلم وتتخيل. وتُحسّ وتحلم وتتخيّل فيما تفكر وتكتب: ذلك هو أفق المشروع الذي تجسّده هذه السلسلة من المجموعات الشعرية، والتي تظهر، اليوم الدفعة الأولى منها، بعد مشقّةٍ طويلة.
هكذا سيرى القارئ، القارئ الخلّاق، أنّ القصيدة في هذا الأفق حقلٌ غنيّ متنوّع الطاقة، وأن الكلماتِ كائناتٌ حيّة، وأنّ الشعر يغيّر العالم: يخلق علاقاتٍ جديدة بين الكلمات والأشياء تخلق بدورها لهذا العالم صورةً جديدة، جمالاً آخر، وحُبّاً آخر، وعمقاً آخر، وحقائق أخرى.
سيرى شعراً يتخطى الانفعال العاطفيّ البسيط أو السّاذج، الذي يوصف به، عادةً، الشعر الذي تكتبه المرأة. ويُسمّى عادةً «الشِعر النسائي» الانفعالي العاطفي، تمييزاً له عن الشعر الذكوري الذي يوصف بالقوة أو المتانة أو الفحولة. وهذه، في العمق، صفات تجيء من «المجتمع»، من خارج الشعر، لا من الشعر نفسه، بحصر المعنى.
ويمكن، إن كان لا بدّ من الوصف، أن نصف الشعر الذي تقدمه هذه السلسلة بأنه وهّاجٌ، حيويّ، متوقّد، متفجّرٌ وراسخ. إنه، جمالياً على الأخصّ، باهرٌ وفاتِن. يوقظ المشاعرَ كلّها، ويتيح لأشياء كثيرة نائمة فينا أن تستيقظ وتتحرّك.
هكذا تمثل هذه السلسلة منعطفاً تاريخياً في اللغة الشعرية، وفي القصيدة على السّواء.
ينهض هذا المنعطف على مبدأين:
الأول، الاستبصار في الجسد، والإيغال في التعرّف إلى أحواله، كشفاً عنها وعن آفاقها،
الثاني، الكتابة في هذا الضوء، وفي معزل كامل عن الثقافة السائدة في وجهيها: الاستعادي – التقليديّ، الآتي من الماضي التقليدي، والاستعاري – التقليدي أيضاً الآتي من الخارج الأجنبي، عبر الترجمة، على الأخصّ».