حتى عندما يؤرِّخ الصهيوني، فإنه لا يقدّم اعتذاراً أو أيّ أدنى أسف على جرائم اقترفها أسلافه بحقّ ضحاياه الفلسطينيّين بما أنَّه في صلب المؤسّسة الصهيونية ونتاج أيديولوجيتها. أقصى ما يمكن أن يفعله هو أن يقدّم جزءاً من الأرشيف الذي يحصل عليه بطريقة جافَّة لا تخلص إلى أنَّ «إسرائيل» ظاهرة كولونياليَّة آيلة إلى زوال. هذا بالضبط ما يقدِّمه كتاب «نهب الممتلكات العربية في حرب 1948» («مدار»/ المركز الفلسطيني للدراسات الإسرائيلية ــــ ترجمة: أمير مخول ــــ تقديم: أنطوان شلحت) لآدَم راز (تل أبيب ــــ 1982) أصغر مؤرِّخ صهيوني، ابن الجيل الثالث من موجة المؤرِّخين الجدد.
فلسطينيون يخرجون من يافا في عام 1948

العمود الفقري للكتاب سرديةٌ تريد لنفسها أن تكون «موضوعيَّة» في جردها لعمليات النهب التي قام بها المستوطنون اليهود للأملاك المنقولة (دونَ غيرِها) في بيوت الفلسطينيين، لدى اقتلاعهم من مدنهم وبلداتهم إبان النكبة. يستند المؤرِّخ إلى أرشيف كبير جداً ومتنوع، يراوح بين قراءة وثائق أفرجَت عنها المؤسسة الرسمية الصهيونيّة والشهادة المروّعة عن وقائع نهب جماعي منظَّم، مع وضعها في سياق النقاش السياسي الداخلي لوقائع النكبة بين 1947 و1949.
هذا الكتاب هو الأشمل في موضوعه، بما أنَّ المؤرِّخ يكشف فيه عن اطّلاعه على أكثر من 20 مركز أرشيف داخل الكيان المؤقّت، من دون إغفاله مجريات النهب في أيِّ مدينة من مدن فلسطين التاريخيّة. لكن الأهم في ما يكشف عنه الكتاب هو أصداؤه التي تثبت أنّ المجتمع «الإسرائيلي» معَسْكرٌ بالكامل، فالتورُّط في النهب يشمل «المدنيين» كما المحاربين من بين الغزاةِ المستوطِنين، ليصيرَ النّهب سياسةً عامةً داخلية وخارجية، شملت (ولا تزال) الأراضي والبيوت، وشهدت سماحاً «قانونياً» في عمليات النهب الفرديّة كنهج سياسي يلتزم بتفريغ البلاد من سكّانها الأصليين.
من مزايا هذه الترجمة، أنّها لا تكتفي بنقل محتوى الكتاب من لغة إلى أخرى فحسب، وإنما توجّهها نقدياً إلى القارئ، عبر تنبيهه إلى محاذير ومنزلقات تقصَّدها المؤرخ. يقول مقدِّم الترجمة العربيّة أنطوان شلحت: «على الرغم مما ينطوي عليه هذا الكتاب من جهدٍ محمود وأهمية ملفتة، يلزم أن نمهّد لقراءته، سواء بالنسبة إلى القارئ الفلسطيني أو العربي، بالإشارة إلى أنه مكتوب من وجهة نظر لا تخفي أنها مؤدلجة صهيونياً، حيث يقرّ المؤلف منذ البداية بأن ما حدث في عام 1948 كان في قراءة الفلسطينيين نكبةً، لكنه في قراءته «حرب استقلال»، مثلما يقرّ بأن الحركة الصهيونية لم تكن حركة نهبٍ منذ نشأتها، وفي الواقع لا ينبغي أن يُنظر إليها على هذا النحو حتى بعد انتهاء «حرب الاستقلال». بكلمات أخرى، فإن محتوى هذا الكتاب هو كشف وقائع من الأرشفة الصهيونية، لكن من خلال النأي عن تفسير أو تحليل طابع هذه الحركة، وكذلك من دون مناهضة مُعلنة لها. بناء على ذلك، وجدنا أن أكثر ما يستدعيه تقديم نشر هذا الكتاب بترجمة عربية خاصة، هو استعادة حقيقة وجود صِيغ متنوعة ضمن سياق تحدّي أرشفة الصهيونية للأحداث المرتبطة بالنكبة».
من شهادات الكتاب الموثَّقة أيضاً، كتبت محارِبة في «كتيبة البلمَاح الثالثة» إلى والديها: «أحضرت بعض الأغراض الجميلة من صفد، فوجدت لي ولسارة فستانين عربيّين مطرّزين بشكل فائق الجمال، ربما سوف يلائمانِنا. كما أحضرت ملاعق ومناديل وأساور وخرزاً وطاولة دمشقية، وطقم فناجين قهوة رائعاً مصنوعاً من الفضة، وفوق هذا كله، فقد أحضرت سارة في الأمس سجادة فارسية كبيرة جداً وجميلة وجديدة تماماً. لم أرَ مثل هذا الرونق من قبل. مثل هذا الصالون في إمكانه التنافس مع أفضل صالونات أغنياء تل أبيب. على فكرة، هذه الورقة هي أيضاً تعود للعرب». إشارة أخيرة: يتغافل المؤرخ عن كون نهب المقتنيات مقروناً غالباً بنهب الأرواح، عبر الآلة التمهيدية لعصابات الشترن والأرغون والهاغانا وأنوية الجيش الأكثر حقارةً في العالم. وهي أولى معالم التأريخ «الموضوعية» التي تعزل السرقة عن الدماء المسفوحة أنهاراً، إذ لا يمكنك أن تكون مؤرخاً نزيهاً (مثل إيلان بابِهْ) من دون أن تتخلَّص من أسر الكيان الصهيوني بمؤسساته وسرديتِه «الوطنية».
كأنَّ وقائعَ النهب ذاتُها تحدث في غزَّة الآن، فقد تأسّس النهب (نهب المقتنيات والأراضي والبيوت والأعمار) مثلما تقول الصحافة العربية والدولية المتحررتان من التواطؤ كـ «رياضة وطنية إسرائيلية» منذ حملات الاستيطان الأولى في منتصف القرن التاسع عشر حتى آخر اجتياح حالي لتخوم رفح، على سائر أرض فلسطين من النهر إلى البحر. لكنَّ من سيعيد الأرض، سيعيدها بمسروقاتها!