«والآن وأنا أنساب بين جبل عاملة والجليل، أراهما تداخل أرضٍ، صوتاً وصدى، تيناً وزيتوناً، شعوباً وقبائل تلاقوا وتعارفوا، فمنهم الكريم التقيّ ومنهم اللئيم الشقيّ، وبين هذا وذاك أسرار وأساطير، والأسماء فيها رموز سحرية، بل شرارات إذا ما وجدَت من يقدح زنادها فإنها تضرم حرائق الذكريات وصوَرها». مع رواية عدي الموسوي «ياقوت من خوابي الشقيف» الصادرة أخيراً عن «دار البيان العربي»، يمكننا القول بثقة إنّ الأدب المقاوم قد اهتدى أخيراً إلى ضالّته في وقت ولدت فيه المقاومة - ولا سيما الإسلامية في الجنوب اللبناني - في أزمنة التباس كثيرة، بين الديني والعلماني، الديني والطائفي، المحلّي والأجنبي، إلى جانب الصراعات المحيطة بها من تقاتل مصالح عسكرية واقتصادية عظمى وتنازع عرقي ولغوي وقومي ومذهبي.

يستبطن عدي الموسوي روح المقاومة على مرّ التاريخ ليبدأ روايته من حصن الشقيف في أعالي جبل عامل حيث تقف ثلة من عسكر الأمير حسام الدين بشارة المدافعين عن القلعة القائمة على كتف الليطاني وترفض تسليم القلعة لفرسان الداوية الصليبيين، بعد تسوية عقدها معهم أحد الأمراء الأيوبيين ضمن صراع ورثة صلاح الدين الأيوبي على المُلك من بعده. يلجأ الموسوي إلى تقنية سردية متقنة، إذ ينكشف البصر لبشارة الصبان، الذي يستشهد في القلعة، استناداً إلى الآية القرآنية «لقد كنت في غفلة من هذا فكشفنا عنك غطاءك فبصرُك اليوم حديد»، التي يستلهمها الصوفيون في مقامات المكاشفة، لتنتقل روحه ذهاباً وإياباً في التاريخ والجغرافيا قبل ولادته وبعدها بشكل أثيري شفاف. ويروي تاريخ عائلته ونسبه الذي امتزجت فيه دماء المقاتلين التركمان والأرومة الأصيلة لأهل جبل عامل. في سرد ثلاثي الأبعاد، تتشابك سيرة التركمان السلاجقة الذين قاتلوا الروم والفرنجة، ولا سيما في معركتي ملاذكرد وموقعة سهل سرمدا قرب حلب، بسيرة العامليين الذين رزحوا طويلاً تحت نير الاحتلال الصليبي لبلادهم التي كانت بمنزلة الغلاف الحيوي لبيت المقدس، وتنظيمهم للمقاومة السرية ضد الصليبيين في نواحي صور.
تتقدم رواية الموسوي لتشبك تواريخ البطولة والرفض بعضها ببعض، لتروي لنا الكثير من وقائع التاريخ مثل حصار صور وسقوطها بيد الفرنجة وانتصار صلاح الدين في حطين ثم نكسة جيشه في معركتي ارسوف وعكا، وتواريخ الصليبيين في عكا وصيدا وصور من دون أن تكون رواية تاريخية مثل تلك التي نعرفها مع جرجي زيدان أو غيره، مع ما يقتضي هذا الفن من التسلسل التاريخي والأمانة الحرفية في نقل المعارك والوقائع، إذ يكتنفها الكثير من الرمزية مثل تلك الياقوتة الحمراء التي يحرص الفرسان المقاومون أبَاً عن جدّ على حفظها وصونها من الجد الأول «مافي جقمق» مروراً بحفيده بشارة الصبان الذي تبصر روحه كتيبة «الجرمق» في المقاومة الفلسطينية تقاتل ذوداً عن القلعة، والشهيد محمد حميد أو «الشهيد الحي» الذي اشتبك مع كتيبة كاملة من القوات الإسرائيلية عند أسفل القلعة. يكمل الموسوي بذلك البعد الثالث والأهم في الرواية والمتمثل في ربط السرد مع الملحمة البطولية للمقاومة في جبل عامل منذ زمن الاجتياح وحتى لحظة التحرير: ليست الياقوتة سوى صورة رمزية للمقاومة التي يبذل دونها الأبطال والشرفاء والفرسان وأهل الأرض الغالي والنفيس، وليست القلاع سوى سجلّ وذاكرة لفعل النضال والرفض، إذ تقوم الصلة بين قلاع الشقيف وصور وحلب: «هل شعرتم يوماً، يا صحبة التطواف، بأنّ هناك قرابة ونسباً بين القلاع والحصون؟ يشعر كثيرون بها حين تنقلهم تصاريف الدهر من أرضٍ إلى أخرى، فإذا طالعوا ما استجمعوا كل مهاراتهم بالمقارنة لإيجاد الشبه بين ملامح برج مكين بآخر في قلعة من القلاع، وبين تفاصيل بوابة هذه القلعة ومدخل ذلك الحصن، فيغدو الواحد منهم كمن يستنطق غمازة الذقن، وتقوّس الحاجب، ونمش الأنف... هكذا الأمر ها هنا مع قلعة حلب، أبصرُ حجارتها الشهباء، فأرى فيها حصن الشقيف الذي تفصله عنها فجاجٌ وسهول وقفار وجبال».
تتشابك سيرة التركمان السلاجقة الذين قاتلوا الروم والفرنجة بسيرة العامليّين


بالحرص على عدم تهميش العنصر التركماني في الحضارة الإسلامية، ولا سيما في صفحات الجهاد ضد الغزاة الصليبيين، واستحضاره صوراً مشرقة من وقوف المسيحيين المشرقيين إلى جانب إخوانهم المسلمين في مواجهة الغزو الصليبي الاستعماري، يحرص الموسوي على توسيع دائرة المقاومة لتشمل جميع الرافضين للاحتلال والهيمنة من الزمن الصليبي حيث «عسكر كثيف يطوق الحصن (الشقيف) ويدكّه بقذائف المنجنيق، فتهوي راية إلى الأبد، وتعلو راية المماليك بأسدها الأسود المتوثب تارة وبهلالَيها الأبيضين»، مروراً ببطش أحمد باشا الجزار الذي يقتحم جنوده الحصن «ويخرجون منه أكداساً من الكتب والمجلدات ويقتلعون بابه المدرّع بالحديد ويحملونه على عربة ثم تندلع في الحصن النيران»، ثم رحيل العثمانيين وقدوم الغزاة الفرنسيين... ليبصر الراوي «أدهم خنجر يأمر رجاله بالحذر والاحتماء، فيسارعون إلى الخندق الصخري المحفور أمام الحصن وقرب الأجران الصخرية المنحوتة وشمالاً عند الروابي التي تلامس بركة ماء كبيرة، أرى عسكراً بخيول ومدافع، على وجوه الضباط سحنات تذكرني بالفرسان الفرنجة الذين دائماً ما قاتلناهم بين صور وعكا وبيروت ومرج العيون، واليوم ترفرف فوقهم راية مثلثة الألوان»، وانتهاء برحيل المحتل الإسرائيلي عنها ذليلاً يجرّ أذيال خيبته. إذ يبصر بشارة الصبان اجتماعاً لعدي وصحبه عند حصن الشقيف عام 2000 على منصة «إذاعة النور»، فيتمنى لو كان قادراً على اختراق الحجب وإخبارهم بأنّ «هذا الحصن قد عرف حكاية صمود جمعت رجالاً من أرض عاملة والجليل واليمن وحتّى من ديار بكر!».
«ياقوت من خوابي الشقيف» هي رواية المقاومة بامتياز، المقاومة المشرقية والإسلامية والفلسطينية في مواجهة اللحظة المتوحشة الغربية والصهيونية. رواية من يَتعمّد صنّاع الأكاذيب اليوم طمس سيَرهم من كتب التاريخ، والتعتيم على صفحات نضالهم المنطلقة من قيمهم وتراثهم وثقافتهم لمقارعة الغزاة والمحتلين مهما تعدّدت وجوههم وراياتهم، وللفكر الظلامي التكفيري صنيعة هؤلاء الغزاة. إنها رواية طالعة من هذا الفجر الجنوبي الأصيل الذي توّج في لحظة 25 أيار التاريخية من عام 2000، النصر المرتبط بتاريخ طويل من العزّ والكرامة ونخوة أهله من فرسان وفلاحين وشهداء ومتصوفة... النصرُ الذي انتصرت فيه ياقوتة الدم على السيف.