يحار قارئ كتاب جاد تابت «لبنان البدايات في سيرة مثقف حداثي» (دار رياض الريس) ما إذا كان أمام عمل تأريخي لمرحلة حديثة من تاريخ لبنان (أواخر القرن التاسع عشر وبداية الاستعمار الفرنسي) أم أنّه على موعدٍ مع سيرة «مثقف حداثي»، كما وصف المؤلّف صاحب السيرة أي والده، المعماري أنطوان تابت. منذ البداية، يحاول العنوان أن يمنح القارئ انطباعاً عن طابعٍ تاريخيّ في الاشتغال، إلى جانب شخصيةٍ يجري البحث عنها، كأنّ الكاتب ينطلق من مسلّمة أنّ الفرد كائن تاريخي يفعل في التاريخ مثلما أنّه من صناعته. لكنّ العنوان يفتح مجالاً للتأويل، حتى لا نقول إنه مفعم بالالتباس. يتقدّم «لبنان البدايات» على «المثقف الحداثي» لفظياً، غير أنّ لبنان البدايات، وهو زمن نشأة الكيان اللبناني، مسرود في سيرة «مثقف حداثي»، أي إنّ أنطوان تابت كان حداثياً في زمن البدايات، وسيرته، وهي حكاية حياته، تشكّل مسرحاً لتاريخ لبنان. في الظاهر، يريد تابت المصالحة بين المسارين، في التوليف بين تاريخ لبنان وبين تاريخ أنطوان تابت، بحجة انصهار الذاتي مع الموضوعي كما هي خصائص الأبطال، أي أن يوازي بين نشأة لبنان ومساره وبين ولادة أنطوان تابت وحياته، فتكون رؤية لبنان البدايات سانحة إذا ما نظرنا إلى سيرة أنطوان تابت. لكن ما دام الثاني حداثياً، وتحديداً، في زمن البدايات، فقد صار محرّكاً للتاريخ وصانعاً لمحطّاته الفاصلة. هكذا يكون الوطن، في بداياته، على صورة الوالد ومثاله. والحال أن كتابةً كهذه غالباً ما تصنع الأساطير، في إبرازها الإرهاصات التي صنعت البطل من ثم إعطائها خلفيات للبطل، في حين أنّ نظرةً سريعة إلى واقع البدايات، بما تتضمّنه من دسائس ومؤامرات ومكائد، تفيد بأنّ سيرة لبنان ليست سيرة أنطوان تابت مهما طوّعها الكاتب أو أرادها أن تكون كذلك.

اختار جاد تابت التأريخ بدلاً من تقمّص دور الراوي أو الحكّاء كما تشترط كتابة السير. أخضع كتابته لسكة منهجية في البحث أفضت إلى إعادة سرد الرواية المتداولة عن نشأة لبنان مصحوبةً ببعض التعليقات، فنراه يمرّ على الأحداث معقّباً، أحياناً، على انعكاساتها ونتائجها. وإذا ما وصل إلى خلاصةٍ قد تُناقض الرواية المعترف بها، وضع سلسلة احتمالاتٍ وتساؤلاتٍ وتركها مرمية أمامنا. في النهاية انسحابه سهل، يمتلك الذريعة بأنه في وارد توثيق سيرة الأب. والتأريخ عند تابت غير محمّل بطابعٍ استقصائي، وليس غرضه الحفر والتنقيب، بل المرور السهل والمُستقيم على الأحداث كما دوّنت من دون فحصها أو تفكيكها، وهذا من شأنه أن يؤكد لنا أن التاريخ يقف إلى جانبه، فمن هنا ترث السلالة مكانة وامتيازاً. ويبدو أنّ الغاية من اتباع تابت لهذا التأريخ، هو الاحتفاء بالتاريخ المنظور إليه كوحدة صلبة، والاكتفاء بهذا الهيكل من دون الغوص في عناصره. إنه ليس تأريخاً بقدر ما هو صياغة ممجوجة للسردية المتداولة، فهي تصبّ في مصلحة الأب المولود في جبل لبنان، وتحديداً في بحمدون، الخاضعة لاقتصاد إنتاج الحرير... الأب الذي تعلم في مدارس وجامعات تابعة للإرساليات الأجنبية وبعد تخرّجه لعب دوراً في الحياة اللبنانية، وبالتالي في وسع هذا المسار المستقيم أن يخدم مراد الكاتب في إظهار لبنان البدايات على أنّه توأم لأنطوان تابت.
مع دمجه سيرةَ والده مع سيرة للبنان، باعتبار أن الاثنين نتيجة «صيرورة تاريخية» واحدة، لا يمكن قراءة كتابه إلا بأعين سياسية، خصوصاً أن والده، كما صوّره لنا، نموذج عن «روح العصر». غير أن روح العصر هذه تنبثق من قوى عالمية كانت تحيك عصراً جديداً وتصبو إلى الهيمنة. عصر يرتكز على تقسيم أقاليم وإقامة استعمار جديد. من هذا السياق، نستطيع فهم مدلول «المثقف الحداثي»؛ هو ذاك الواقع تحت تأثير حداثةٍ معينة وثقافة معينة في مرحلة تاريخية (معينة) محكومة بقوى سياسية جديدة. وهذا يعني من ضمن ما يعنيه أن الثقافة الحداثوية هذه، بما هي التحاق بـ«روح العصر» واستجلاب للنموذج، ليست قطيعة فعلية مع ماضٍ أو مع إرث ثقافي وتفرّغها لتأسيس حداثتها، كما أنها لا ترمي إلى أن تكون كذلك، بل تقتصر على مسايرة أوضاع كانت راهنية، وتبنّي نموذج كان رائداً وممارسته في بلدٍ مصادر. وفي حال أردنا التبسيط، يجوز القول إن الثقافة الحداثية هنا هي ببساطة ثقافة «التحديث»، مبتعدين عن وصفها بالإيديولوجيا، علماً أنها كذلك. في مراحل لاحقة، سنسمع عن المثقف الفرنكفوني، وعن الفرنكوفونية، وراصد هذه الظاهرة قد يجد ملامحها الأولى في بورتريه من نتعرف إليه الآن، أثناء قراءتنا، على أنّه المثقف الحداثي.
بينما تبدأ الصفحات الأولى من الكتاب عن قرية بحمدون التي سكنها أول ما سُكنت آل تابت، وعن وضع جبل لبنان وصناعة الحرير، ومنزل جده الذي «يشبه المسرح» حيث بناه في عهد المتصرفية، ثم التطرق إلى الحرب العالمية الأولى ومرحلة الاستعمار الفرنسي، نجد الكاتب يرفع صوته قليلاً أمام سلطوية العثماني، ويذكُر عنف رأس المال الفرنسي، ويفضح في بعض الأحيان ما ارتكبه الانتداب. يبقى أن هذه الملاحظات المتلطّية وراء الموضوعية لا تزعج المرجع ولا تمسّ بمراكز القوى وعلاقاتها، إذ إنّها لا تخلخل السردية، بل تمارس نقديتها ضمن «الحدود الديمقراطية» المشروعة. سلاسةٌ سنجدها في «طليعية» امتاز بها الأب، أخذت من «الثورية» قناعاً، أو على الأقل حمّله إياه الابن. أثناء تتبعنا للسيرة المكتوبة، سنعثر مثلاً على مسودة رسالة حيث الكاتب ليس متأكداً إن كان والده قد أرسلها إلى صديقه غبريال بونور أم احتفظ بها لنفسه، يظهر فيها أنطوان تابت مستاء من عقلية فرنسا وممارستها الاستعمارية بعدما قرأ ملصقاً يعلن عن «افتتاح معرض كولونيالي في باريس» أثناء رحلته إلى فرنسا. قد يكون أنطوان تابت قد احتفظ بهذا الاستياء لنفسه، لم يبح بشعوره لأحد حتى المقربين منه، مثلما انكفأ سابقاً حين وافق الاتحاد السوفييتي على قيام كيان إسرائيل، إذ شعر بالارتباك، فكان تفاعله مع التحولات الدرامية التي طالت أعضاء الحزب الذين فصلوا عقب رفضهم قرار التقسيم بأنه «حاول أن يبقى بعيداً عن أجواء الحزن الذي سيطرت على الحزب آنذاك». موقف سنجده يتكرر عندما فرض خالد بكداش سيطرته المطلقة على الحزب الشيوعي ومؤسساته، مستحوذاً على مجلة «الطريق» التي كان قد أسسها أنطوان تابت مع أصدقائه.
وسيرة أنطوان تابت غزيرة، تفتحت عيناه في لحظة تغيرات عالمية وقد عايش هذه التحولات. ولد في بحمدون وكان والده يعمل في مصنع الحرير المملوك لعائلة غيران، تحصّل على تعليمه الابتدائي في مدرسة فرنسية، ثم أكمل دراسته في «مدرسة الفرير»، فكلية الهندسة في الجامعة اليسوعية. هناك تعرف إلى مجموعة شباب من بينهم جورج شحادة، الذي كان أنطوان تابت وراء نشره مجموعته الشعرية الأولى، وأطلقوا على أنفسهم مجموعة «الفرسان الأربعة» متأثرين برواية ألكسندر دوما وتيمّناً بأبطالها، أعجبوا بالشعر الفرنسي الحديث الخارج عن الإنشائية البائدة والبعيد عن الوطنية الصلفة، وصف جورج شحادة حالهم بأنهم شبان «يركبون التاريخ». والالتحاق بقطار التاريخ، أو «امتطاؤه»، يختلف عن تغيير التاريخ أو تفسيره. مصير الأولى قد يؤدي إلى التبعية، فيما مصير من يريد تغيير التاريخ غالباً ما يكون الجنون أو السجن.
يخبرنا تابت أن «الفرسان الأربعة» تعرّفوا إلى غبريال بونور، وهو مسؤول تربوي يعمل تحت إمرة المفوض الفرنسي السامي، وناقد أدبي يسهم دورياً في «المجلة الفرنسية الجديدة»، بطريقةٍ غامضة، فالكاتب لا يعرف كيف تم اللقاء وما هي المناسبة، وعبر بونور، سافر أنطوان تابت إلى فرنسا ليكمل دراسته العليا في الهندسة، لماذا هو وليس غيره، لا نعرف الأمر كذلك. ثمة غموض يلف الكثير من المحطات على المستوى الشخصي لأنطوان تابت، في الوقت الذي نرى فيه إفراطاً في السرد التاريخي، وهذا في وجهه الآخر كفيل لنستقي حال الثقافة آنذاك، وفي وسعه أن يمدنا بخلاصاتٍ عدة، من بينها أن طبقة النخب مرحلة العثمانيين استمرت بوصفها نخباً في مرحلة الفرنسيين. إننا إذ نتعرف، عبر الكاتب، إلى «الفرسان الأربعة» فنرى أنّ «نعمة إده كان قد تسلم مسؤوليات جديدة في إحدى الإدارات المحلية التي أسسها الانتداب في دمشق، وأنطوان موراني باشر العمل في شركة سكك الحديد الفرنسية «دمشق حماة وتمديداتها»، وجورج شحادة بات مساعداً لبونور في دائرة التعليم الرسمي في سوريا ولبنان».
لا يروم النقد إلى التشكيك في براعته في مضمار الهندسة المعمارية، أو إغفال النظر عن تميّزه بحساسية ثقافيةٍ وحسّ فنّي. لكن لو أراد جاد تابت أن ينحو صوب كتابة الرواية عوضاً عن التأريخ، محتفظاً بهذه المنهجية، لكُنّا أمام رواية كلاسيكية، حيث البطل في ترحال دائم، ينطلق كالسهم، يتجاوز كل العوائق، ولا شيء سوى الموت يردعه. أما محاولة الابن جعل لبنان البدايات خريطة من رسم الأب وأن مصطلح «المثقف الحداثي» سيعفيه من التورّط في شؤون السلطة السياسية، ومن مداراتها، فلَهذا ضرب من ضروب التحذلق. كان أنطوان تابت على علاقةٍ وطيدة مع التيارات الطليعية في فرنسا، من السريالية إلى المدارس المعمارية الجديدة. يبقى أن هذا التثقيف والتأثر لم يخلقا مساراً ملتوياً عن السائد، والأهم أنهما تجسّدا في كيانات تابعة للاستعمار الفرنسي وبإقرار منه. إذا كانت العمارة لغة مرئية لحال العصر، تعكس جمالياته وتجسّد وظيفته، فعلينا أن نفهم أن ذاك «التحديث» في نهاية المطاف نابع من مركز سلطوي، بالتالي إنّه يصبّ في مصلحة السلطة الحاكمة، إن كان من ناحية تسهيل الخدمات وإدارة الأعمال في ربط الطرقات بعضها ببعض في أبسط مثالٍ، أو في خلق مركزٍ وأطراف، أو تصميم... عاصمة. يخبرنا مثلاً جاد تابت أن السلطات الفرنسية بعد تغييرها ملامح المدينة العثمانية وتحويلها بيروت إلى «باريس الشرق» و«خلافاً لهذا النهج التحديثي العام، اتخذت السلطات الفرنسية طابعاً تقليدياً» مع الجنرال غورو، عرّاب هذا التزمت، كان المفوض السامي ويغان يحقق «إنجازات» سلطات الانتداب التي اهتمت بتطوير القطاع السياحي، فعيّن المعماري الفرنسي جاك بورابي لإعمار فندق السان جورج، وسرعان ما اتصل بصديقه أنطوان تابت الذي تعرّف إلى بورابي في فرنسا أثناء دراسته الهندسة المعمارية ليساعده في تحقيق المشروع. ثمة فضاءٌ سياسيٌ كان تابت يدور في فلكه. كأن الثقافة الحداثية عندما تنظر من عدستها ترى أن الاستعمار حمّال أوجه: ثمة استعمار جيد واستعمار سيء، ولا ضير إذاً في اللعب على التناقضات، خصوصاً أن لا أعين ترى. لا تعدو الثقافة الحداثية كونها ثقافة تابعة «للتحديث»، وبمراحله كافة، في حالة تواطؤ دائمة، أكان على المستوى الخارجي أو الداخلي، فإبان حكم فؤاد شهاب، كان تابت «يلتقي دورياً معه»، ومع البطريركية المارونية كذلك، التي أسهم أنطوان تابت في بناء الكثير من كنائسها.
منذ زمن جبل لبنان ومصنع الحرير مروراً بلبنان «باريس الشرق» ووصولاً إلى لبنان «سويسرا الشرق»، نقرأ عن أنطوان تابت، الذي استطاع في خضم كل هذه التحولات أن يحجز مكاناً لنفسه. على أنّ المثقف الحداثي بمجرد أن أسبغ عليه هذا الوصف (مثقف وحداثة) ومارس ثقافته وحداثته، دخل المأسسة على الفور. وسيرة أنطوان تابت غير بعيدة عن المؤسسات، لقد حاز وسام لينين، الذي حصل عليه سبعة أشخاص في العالم فقط (من بينهم كمال جنبلاط)، وترأس اتحاد الأحزاب اللبنانية المناهضة للصهيونية، وكان عضواً في مجلس السلم العالمي، ولنا أن نستنتج أنه على عكس الصفة التي أطلقت عليه؛ فقد اشتغل السياسة بالسياسة، ولم يتوانَ حتى عن الترشح للانتخابات النيابية، على عكس ما تنادي به الثقافة، في خلق تياراتٍ مضادة، أو موجاتٍ نقيضة تستمد قوّتها وشرعيتها من المحلّي قبل العالمي، أصليّة وغير منسوخة كما هي عليه. يبقى أن الثقافة الحداثية هي نقيضة التحديث، ذلك أنها تستشري في المجال الاجتماعي وليست نابعة من البنية الفوقية أو بإقرار منها. يبدو أن أحوال الحاضر غير بعيدة كثيراً عن أحوال الماضي، إذ إننا نجد اليوم في الثقافة صنف «المثقف الحداثي» على رفوف معنونة بـ«البديل».
ليس تأريخاً بقدر ما هو صياغة ممجوجة للسردية المتداولة


من البديهي أن يتبنّى الخاضع آراء تتماهى، بدورها، مع السردية المتداولة. أثناء النهضة الثقافية والاجتماعية التي سادت في لبنان، وكان أنطوان تابت أحد روّادها، ظهرت تياراتٌ ناشئة، ولكن أنطوان تابت، كما يبدو، بدا متحفظاً على هذه التوجهات. وبينما كان الكيان الإسرائيلي على قدم وساق في نشأته، راح عدد من تلك الحركات القومية يحاربه. بيد أنها كانت، بحسب الكاتب، إما متحالفة مع قوات المحور وإما تشبهه من الناحية العقائدية، وكان لأنطوان تابت أن يتصدى للموجة الفاشية الصاعدة. فبعض الحركات القومية، مثل القومية السورية الاجتماعية، هي بحسب أنطوان تابت فاشية. أما الابن، فيوازي بين «حزب الكتائب» الذي رعته فرنسا، وبين القوميين السوريين الذين تعرضوا للملاحقة من فرنسا. لكن أنطوان تابت الذي يرى أن الفاشية «أفظع حركة استعمارية وهي حليفة للصهيونية»، يحكي كثيراً عن الأمّة، ويعوّل على نهضتها: «إننا نؤمن بقوّة الفكر وأثر الأدب في تحرير الأمم وإنهاضها»، من دون أن نعرف ما هي الأمّة عند تابت، وما هو تصوّره لها. وأنطوان تابت كما نقرأ سيرته، يشطح بعيداً في تأثره الثقافيّ. فولادة مجلة «شعر» دفعت مجلته «الطريق»، إلى الالتفات نحو النقد والسينما والمسرح والشعر، وقبلها، عندما تعرّف في رحلته الباريسية إلى الموجة السارترية ومناخ مجلة «الأزمنة الحديثة»، عاد وغيّر شعار مجلته: «اتخذت مجلة الطريق شعار «مجلة الثقافة الحرة» القريب من الشعار الذي كان قد أطلقه سارتر في العدد الأول من مجلة «الأزمنة الحديثة»: من أجل الحرية والاشتراكية».
في البدء، يستهل جاد تابت كتابه بسرده عن زيارة أجراها إلى قريته بحمدون في مرحلة حديثة من عمر لبنان، مدة ما بعد الحرب الأهلية، ويقارن كل ما تقع عليه عيناه من أبنيةٍ وساحاتٍ وكنائس وأدراج، مع نسخها الأصليّة (؟) العالقة في ذاكرته. يُمعن جاد تابت في وصف التحوّلات العاصفة التي ألمّت بقريته على المستوى العمراني والمدني، ويتركنا نستشفّ حالة الاغتراب التي أطاحته: حتى رائحة الأرض تغيرت عليه، لقد صار غريباً عن قريته. هناك شعور بالفقدان يعتري الكاتب تجاه ماضٍ قديم لم يعد موجوداً. هناك حنين طافح لقريةٍ ولد وترعرع فيها تغيرت ولم تعد تشبه نفسها. زيارة تابت إلى بحمدون أشبه بوقفة رثاء أمام منزل جده الذي خرجت منه «حكايات طواها الزمن»، من ضمنها حكاية أنطوان تابت، ويكاد لا يعرفه. العودة إلى بحمدون مردّها، على ما يبدو، إصغاء تابت إلى نداء نوستالجي حميم... حنين إلى منزلٍ وقرية وعمر فائت. قد تكون هذه النوستالجيا إلى المنزل وإلى القرية توقاً إلى قوّة آفلة، في سيرة كتبت عن أب غائب، في حين أنها، أي السيرة، تصلح لأن تكون مطلعاً يداعب الشجن السياسي، في مواويل تتشدّق بزمن «لبنان الجميل».