سيرين قوبا
اليوم 11 أيلول، لكن الذكرى لم تمرّ ببال النساء في البقاع. فهنّ، مع اقتراب حلول فصل الخريف، منهمكات في تحضير أنفسهن وبيوتهن لكل مستلزمات فصل الشتاء. إنه شهر احتفالي، متعب جداً، لكنه مناسبة للقاءات بين سيدات القرى ولتقاسم الأعباء ومساعدة الآخرين. يندر أن نرى امرأة وحيدة تحضّر المكدوس مثلاً. يشهد هذا الشهر ورشة حقيقية تنتقل من بيت لآخر في كل قرية، وتنتقل معها الموائد الغنية بالمونة الطازجة والحلويات. تنتعش القرى في أيلول، يعود إليها أبناؤها الذين يعيشون في بيروت لتحضير المونة. وبعد انقطاع يدوم عاماً، تستأنف النزهات في طرقات البلدات والزيارات المتبادلة والأحاديث المعلقة. وتُروى حكايات جديدة عن أناس القرية الذين فرّقتهم أحوال العمل في العاصمة اللبنانية.
يطلق البقاعيون على أيلول اسم شهر “الميم”، خلاله تلزمهم مبالغ طائلة للمونة، والمدارس، والمازوت، والملابس وغيرها من التجهيزات.
قبل أن يبدأ العام الدراسي وموسم تساقط“الثلوج”، يحضّرون “للمونة”، فركيزة عيشهم في الشتاء أن تكون منازلهم مؤمّنة بجميع المواد الغذائية. يبدأون بشراء الحبوب على أنواعها من قمح وبرغل، ويصنعون كبيس “المقتى”، و“مكدوس” الباذنجان وربّ البندورة، والمربيات على أنواعها كالتين والمشمش، إضافة إلى عملية تجفيف أنواع من الخضر مثل الكوسى والبندورة، وتوضيب أنواع أخرى في الثلاجات مثل الأرضي شوكي والبازلاء، لتبقى طازجة وليعودوا و“يطبخوها” خاصة، حيت يتعذّر عليهم التبضع من السوق بسبب الثلوج والبرد. كما تُجفّف أنواع من الفاكهة كالتين والعنب ليصبح زبيباً، والجوز واللوز لتقدم للضيوف خلال سهرات الشتاء الطويلة.
أما أبرز ما تنتظره مائدة الشتاء العاصف فهي «طبخة الكشك». يبدأ الأهالي بصناعتها في شهر أيلول في أغلب الأحيان، لتوافر لبن الماعز المخصص «لجبل» الكشك. تتطلب «صناعته» وقتاً طويلاً، وكانت له طقوس خاصة، تجتمع نسوة في يوم فركه (بعد تجفيفه لأيام) وتدور الأحاديث، وتحضّر الموائد، كان موعداً للقاء الجارات والصديقات، لكنه يتطلب عملاً شاقاً، لذلك تلجأ النسوة حالياً إلى المطاحن لطحنه، مستغنيات عن الجلسات التقليدية حفاظاً على ظهورهن من آلام تسببها عمليات الفرك.
وتؤمن «صناعته» مورد رزق لكثيرين من أهالي البقاع، فينتج بعضهم كميات كبيرة ويبيعونها في أسواق بيروت، ولدى معظمهم زبائن في مختلف المناطق اللبنانية. وهناك طلب عليه متزايد، ويصدّر إلى الخارج بأسعار مرتفعة حيث يبلغ سعر كيلو الكشك 20 ألف ليرة لبنانية.
هذه السنة، توافرت لدى بعض البقاعيين مختلف الأنواع التي تستخدم للمونة، وكانت موجودة بكثرة لدى أصحاب الأراضي الزراعية ـ وهم كثر في البقاع ـ لأنهم لم يتمكنوا من بيع محاصيلهم بسبب العدوان الإسرائيلي على لبنان، ووزعوا كل إنتاجهم على الأقارب والأصحاب، والبعض الآخر اشترى محاصيل زراعية بأسعار مرتفعة بسبب عدم توافرها في الأسواق، نظراً لظروف الحرب وعدم تمكن الشاحنات التي كانت تقصف من نقل البضائع والخضر.