«ولد سمير ياسين عام 1939، وكان مصمم أزياء ذائع الصيت في بيروت في الفترة التي امتدت ما بين ستينيات وسبعينيات القرن العشرين (...) كانت بيروت تشهد، في ذلك الوقت، إقبالاً كثيفاً على الحياة الليلية، وتضم كباريهات تقدم فيها عروض مثيرة، ودور سينما تعرض أفلاماً ملوّنة (...) افتتح سمير، بعد عودته من باريس، داره الأولى لتصميم الأزياء الراقية تحت اسم «أزياء ياسين» في العاصمة اللبنانية».
كتب رائد ياسين (1979) سيرة والده المصمم بنبرة حيادية وحاسمة، تخالف أعمال معرضه الجديد «أزياء ياسين» في «غاليري مرفأ». يتخذ الفنان والموسيقي اللبناني من السرد غطاء لتفلّت ممارسته الفنية، التي يخلق فيها قصصاً خاصة انطلاقاً مما تيسر له من تواريخ ثابتة في حياة والده الذي قتل خلال الحرب الأهلية، وكان رائد في الخامسة من عمره. إنها سيرة منقوصة، بقيت منها أحاديث متناقلة من الأقارب، ومن صور بعض الفساتين الناجية، ومن خياله الخاص، الذي يستخدمه لملء فراغات كثيرة في حياة الأب سمير. قطعة نيون مضاءة ومعلّقة على الجدار لهيكل امرأة تجاورها عبارة «أزياء ياسين». يحول ياسين الغاليري إلى بوتيك للملابس والأزياء، ستحوي بدورها طبقات زمنية، تحيلنا إلى ذاكرة فردية معطوبة، وإلى أخرى جماعية شعبية مشتتة. تأتي أعمال المعرض كمحاولات لتقطيب سيرة سمير ياسين، واقتراح سرديات جديدة لها، تصلها بالذاكرة الشعبية لجيل بأكمله: الحرب الأهلية، الفنانة الراحلة صباح، مجلة «بلايبوي» وأفلام البورنوغرافيا التي أطّرت الذائقة الجنسية في العقود الماضية، «سينما إديسون» في بيروت، السينما المصرية. يتنقل ياسين بين هذه التواريخ والوجوه والظواهر الشعبية، لبعث سيرة الأب مجدداً عبر وسائط مختلفة مثل: الفوتوغرافيا والتطريز والفيديو والكولاج والموسيقى والسرد والرسم. يواصل استكشافه ومساءلته للفن الشعبي، الموسيقى والأفلام، كما في أعمال سابقة مثل The Best of Sammy Clark عام 2008، التي أدخل فيها صوراً للفنان اللبناني سامي كلارك إلى صور عائلية زعم بأنها الصور الناجية بعد تدمير المنزل خلال الحرب الأهلية. تنتمي هذه الممارسة الفنية، إلى ما يمكن تسميته بالفن الأرشيفي الذي يتخذ من الذاكرة الجماعية والفردية موضوعاً له، أكان لإعادة إحيائه، أو التعديل به، أو نقده، والانقلاب عليه وانتهاكه.

الحرب الأهلية، وصباح، و«بلايبوي» وسينما إديسون في بيروت

الأرشيف الأساسي هنا هو سيرة الوالد المنقوصة أساساً. مساحة سيستثمرها ياسين للتلاعب بفهم المتفرّج وقدرته على التصديق. علّق ياسين صوراً للعارضة فدوى التي كان الأب يستعين بها لعرض تصاميمه. تقف الشابة في الصور أمام ديكور منزلي متواضع، ببلاط مرقّط، فيما تتخذ وضعيات محدودة وخجولة بالنسبة إلى عارضة أزياء. يمشي السرد والأعمال في خطين متوازيين. وإذ يواصل ياسين نبشه في أرشيف وقصص والده، تغطي حياة سمير ياسين نفسها فترة مفصلية من التاريخ اللبناني، أي ازدهار الستينيات، ثم الحرب الأهلية. صعود المدينة وأفولها، يترافق مع الصعود المهني لسمير، وفق الرواية، وتوقفه حين عاد إلى بيروت قادماً من السعودية. يخبرنا النص أيضاً أن سمير وجد نفسه يصمم الأزياء على أجساد عارضات مجلات «بلايبوي» حين اضطر لترك المهنة. هناك صور لعارضات يقفن أمام خلفيات متنوّعة ويتخذن وضعيات متمرسة في هذا المجال، وقد صرن مختبراً لتصميم الأزياء ورسومات الفساتين، والمعاطف، التي تغطي عريهن. في مجموعة ثانية بعنوان Proposal for Proposal، يفتح ياسين احتمالات التصاميم على ما قد كان والده ليختار لو أنه صممها بنفسه. الصور التي تبدو أنها التقطت خلال خطوبة أو زواج في المنزل تصير عرضة لتدخلات رائد. هنا، يتتبع الممارسة التي قام بها في Dancing Smoking Kissing عام 2013. يطرّز فساتين النساء في الصور، ليس فقط بالاعتماد على ذاكرته الفردية، بل على ما سمعه من الروايات عن والده. يخيط احتمالات الفساتين على الصور الحقيقية، مخفياً بذلك كل الفساتين التي ترتديها النساء ومقترحاً أخرى. يمكن لهذا العمل أن يختصر الأرشيف والذاكرة في عمل ياسين. لا ذاكرة أو تاريخ نهائيين، ولا مجال للحسم أيضاً. من كل رواية تتفرّع مجموعة قصص، تحيلنا بدورها إلى رموز من الذاكرة الجماعية. يجد رائد ياسين في المواد والتواريخ، التي استطاع أن يحصّلها من هذه القصّة، مجالاً وافراً كي يختبر قابليتها على التغير والتبدل. إنها مسألة هوس بالسرديات المختلفة وفق نيون Obsessions (هواجس) المعلّقة على جدار آخر. صمّم ياسين هذه الكلمة على غرار الماركات التجارية الكبرى، معلناً فيها عن هواجسه للقبض على ما فاته سيرة والده.


ستتداخل السرديات العائلية (العم ـ الأب ـ الابن) في فيديو «أكره المسرح، أحب البورنوغرافيا» (9 د) المصوّر بكاميرا 8 مم. يوغل ياسين في التاريخ العائلي عبر أفلام البورنو، الذي كان العم مهووساً بمشاهدتها، وبحلمه بأن يصبح نجماً بورنوغرافياً، وفق الشريط طبعاً. لكنه بدلاً من ذلك عمل في «سينما إديسون» في بيروت، حيث كان رائد يشاهد هذه الأفلام. تتقاطع سرديتا الوالد مع العم الذي هرب أيضاً من السعودية لأسباب قسرية، بينما ترافق الفيديو موسيقى ساكسوفون تصدح من ببغاء محنط يقف قبالته، في محاكاة للموسيقى التقليدية المرفقة بأفلام البورنو. بالطبع ليس هذا الالتباس بين سيرتي العم والأب مصادفة. من خلاله، يدير رائد ظهره كلياً إلى الروايات الرسمية والتاريخ الحقيقي للعائلة. يضع بين يدي المتفرج كتاباً بعنوان SY يضم صور بولارويد التقطها والده لنجمات البورنو في المجلات. هكذا يصل الكشف عن سيرة الأب إلى التفاصيل الشخصية والحميمية، التي يجد المتفرّج نفسه متورطاً فيها وفي وصل أجزائها. وفي موازاة هذا التوالد الدائم للسرديات، فإن هناك تبدلاً مستمراً في الوسائط الفنية وفي المواد الأرشيفية التي يستخدمها رائد، حيث صور النساء العاريات تتحوّل إلى فيديو، وصور الخطوبة إلى قطع مطرّزة، فيما تصير أجسداد نجمات البلايبوي مساحة لرسم التصاميم عليها.

*«أزياء ياسين» لرائد ياسين: حتى 7 نيسان (أبريل) 2018 ــــ «غاليري مرفأ» (مرفأ بيروت). للاستعلام: 01/571636