«ولد المسرح اللبناني والعربي إجمالاً في حقل الأفكار، ولم يتحدّر من الطقوس أو من ساحة الاحتفالات الشعبية»، كتبت خالدة سعيد في مقدّمة مؤلّفها الموسوعي «الحركة المسرحية في لبنان ــ 1960 حتى 1975». تشير الناقدة السورية التي رافقت حركة الحداثة في بيروت، إلى فترتين أساسيتين هما النهضة والحداثة، اللتان خرج خلالهما المسرح ضمن جو أدبي شعري وفني تشكيلي متنوّع. وفي هذا دلالة ضمنية على غياب مكان مسرحي أو فضاء مادي -احتضن هذه الحركات المسرحية اللبنانية التي بقيت مرتبطة بالأفكار وبالانفتاح الذي تزامن مع هدم أسوار المدينة، وامتداد العمران خارج السور عام 1840. خلق هذا التحول العمراني والاجتماعي مساحات وأمكنة جديدة للقاء تتمثل بالمدارس والجمعيات والمقاهي ولاحقاً بالمقرات الحزبية. لكن هل كان التفكير بالمسرح كمكان جزءاً من التخطيط المديني لبيروت؟ تتطلّب الإجابة بالطبع بحثاً متعمقاً. لكن برأي رهيف فيّاض، فإن لا وجود للمسرح كمكان في التخطيط العربي للمدن بشكل عام. في حالة بيروت، يدعونا المعمار اللبناني إلى تذكّر المسارح البيروتية ومواقعها. لم يكن التفكير في مسرح كمكان مستقل وارداً يوماً، وهذا ما يؤكّد عليه المؤرخ والكاتب اللبناني عبيدو باشا، الذي يشير إلى بعض الحركات المسرحية المحلية مثل حركة «المسرح اللبناني» مع أنطوان ملتقى التي اضطرت ــ بهدف إيجاد مساحة للتمرينات والعروض ــ إلى الانتقال خارج بيروت، وتحديداً إلى ضيعة الأخوين بصبوص راشانا.
«مسرح الأمبير» في الجهة الشرقية لساحة البرج

«مسرح المدينة» جزء من مبنى تعلوه محلات تجارية، «مسرح دوار الشمس» كذلك، «بابل» الذي أغلق أخيراً وقبله «مسرح بيروت» الذي افتتح عام 1965 في مبنى «سينما هيلتون»، وأقفل أبوابه قبل أعوام. «مسرح البيكاديللي» كاد يتحوّل إلى مركز تجاري أو مطعم آخر في الحمرا، لولا أن أعادت وزارة الثقافة استملاكه أخيراً. ومن بين الفضاءات التي استطاعت الصمود «مسرح مونو» والقبو التابع لـ «كنيسة القديس يوسف» في شارع مونو أيضاً. يؤكّد رهيف فيّاض فكرته: «لطالما كان المسرح هجيناً على الثقافة العربية، رغم التجارب الكثيرة المنخرطة في المجتمع مثل «محترف بيروت للمسرح» في الستينات». «ماذا بقي منها؟» يسأل فيّاض، مجيباً بأن لا ثقافة حاضنة للمسرح، بدليل أن المسارح لم تستمرّ، وما نجا منها، فعل ذلك بتعذّر. المدير الفني لـ «مسرح المدينة» لؤي رمضان يؤكّد أن المسرح لا يستمر بالمردود المادي الذي تؤمنه العروض. يقول ذلك بصراحة، مشيراً إلى أن «المدينة» يعوّل على الدعم الذي يقدمه الأصدقاء. لمحة على أبرز المسارح في بيروت، تعود بنا إلى هذه الأمكنة التي انطلقت في المقاهي مع عروض خيال الظل والحكواتي. المنابر المسرحية الأخرى كانت تتواجد في المعاهد والمدارس مثل مدرسة «الفرير» في الجميزة، و«معهد الحكمة» والجامعتين «الأميركية» و«اليسوعية». وإذا انتقلنا إلى المسارح المدينية، فإن الأبنية التي كانت تحوي هذه المسارح، كانت تتبدل وظائفها دائماً مع الأحداث والظروف السياسية والاقتصادية. البداية مع مسرح «زهرة سوريا» الذي بقي لفترة طويلة يسمى باسم «ملعب سوريا» في إشارة إلى اللعب المسرحي. تأسس عام 1887 في ساحة البرج بمبادرة من سليم كريدية وسليم بدر نزولاً عند نصيحة والي بيروت خالد بك البابان. تحوّل إلى صالة عرض السينما، وخلال الحرب العالمية الأولى إلى مركز للقوات العثمانية، ثم إلى مقهى «الكريون»، ثم مخزن للمواد الغذائية، قبل أن يصير عام 1945 «مسرح فاروق».
«مسرح الرويال» أو «الشيدوفر» بدأ كفضاء سينمائي مسرحي مشترك في منطقة بشارة الخوري. لقد كان التفريط بالمسرح الحل الأسهل دائماً بالنسبة إلى السلطة، إذ هدم «الشيدوفر» من أجل شق الطريق بين بشارة الخوري والبرج، بعدما أمر بذلك رئيس مجلس الوزراء سامي الصلح شخصياً. «مسرح الأمبير» في الجهة الشرقية لساحة البرج، هو فندق أنشئ عام 1904، وحوّله جورج حداد ونقولا قطان إلى مسرح قبل أن يصير صالة لعرض السينما عام 1929. من المعالم المسرحية لبيروت خلال بداية القرن الماضي، «التياترو الكبير» الذي كان مستودعاً للزوارق بين منطقتي اللعازرية ورياض الصلح، قبل أن يجعله جورج تابت مسرحاً. «المسرح الوطني» الذي قدّم عليه شوشو (حسن علاء الدين) معظم أعماله كان أساساً صالة «سينما شهرزاد» في بشارة الخوري. هكذا، تجد المسارح الجديدة التي افتتحت في بيروت خلال العقد الماضي، جذوراً تاريخية مع الأبنية المسرحية في لبنان التي لم تكن يوماً فضاءات مسرحية مستقلة وقائمة بذاتها وفق خطط واضحة. إذ تلجأ الفرق المسرحية والمسرحيون اليوم إلى استغلال أمكنة وفضاءات وتحويلها إلى مسارح، ضمن رؤى جديدة تبدو أنها تستوعب وتتنبّه إلى المآزق التي عاناها المسرح في السابق، فيما تهدف إلى تأمين فضاء لتمريناتها المسرحية.

المسرح ككاباريه
عام 2012، افتتح هشام جابر «مترو المدينة» في صالة «سينما متروبوليس» سابقاً. الفكرة الأساسية وراء المشروع لا تلتزم بالمسرح الكلاسيكي لناحية انتاج عروض كبرى تعرض على مدى أيام قليلة فقط. المسرحي هشام جابر الذي عمل في المسرح في السابق، واختبر العروض في أمكنة مختلفة مثل الحانات والأبنية، وجد بالكاباريه قالباً للفضاء الجديد التابع لـ «مسرح المدينة»، إذ يجمع بين عروض الأداء المسلية والموسيقى والمسرح. في التفكير العام للعروض والأعمال التي بات ينتجها المترو، هناك اهتمام بالملابس والأزياء والماكياج وبفكرة العرض التي تقوم أيضاً على البحث التاريخي ومحاكاة الراهن. كما يقوم بإنتاج أعمال متواضعة تعرض على فترات طويلة مثل «هشك بشك شو» الذي بلغ عامه الخامس، وما زال مستمراً حتى اليوم.
«البيكاديللي» كاد يتحوّل إلى مركز تجاري، لولا استملاكه من وزارة الثقافة


هناك أيضاً سهرات دي. جي، في الباحة الخارجية، التي تجاور المسرح الذي يتسع لحوالي 120 كرسياً. يقول جابر إنّ «مترو» هو شركة أولاً وليس جمعية. لذلك فإنه يعتمد بشكل كبير على مبيعات البار، والمأكولات التي يتم استهلاكها خلال السهرات. في تجربة ليست بعيدة عن «مترو المدينة»، يجمع «تياترو فردان» بين الجانب الفني الترفيهي والاستهلاكي بتقديم المشروبات والمأكولات أيضاً. افتتح «تياترو فردان» في المركز التجاري Dunes عام 2015، ويستقبل انتاجات فنية وغنائية موسيقية طوال الأسبوع يختلط فيها الترفيهي مع الفني، فيما يستضيف عروضاً محلية مونودرامية وفنانين يقدمون مواعيد دائمة، وفنانين أجانب.

... كمساحة للتفكير
إنه أجدد الفضاءات المسرحية التي افتتحت في بيروت. على تقاطع العدلية ــ مار مخايل، أطلقت «فرقة زقاق» استديو خاصاً بها نهاية العام الفائت. سعي الفرقة اللبنانية الأساسي كان تأمين مساحة تمرينات للفرقة بعدما ضاق استديو العدلية السابق على أنشطتها. المكان الذي كان صالة عرض للفنون البصرية «آرت لاونج»، جهّزته الفرقة لا بما يناسب العروض النهائية فحسب، بل بما يشمل التفكير في العمل والتمرينات ولقاءات «أرصفتها» التي تستضيف وجوهاً مسرحية عالمية، إلى جانب ورش العمل التي تقيمها للاجئين والفئات المهمشة في المجتمع. كذلك، فإن الفرقة ستتيح المكان للفنانين المحليين الذين لا يجدون مكاناً لعرض أعمالهم. وتشتمل المساحة على مسرح صغير يتسع لمئة شخص، إلى جانب صالة تمرين مجهّزة، ومقهى للقاءات.

...كبيت
في شقّة داخل مبنى قديم في فرن الشباك، أسس المسرحي والمخرج اللبناني شادي الهبر فضاءه «شغل بيت» عام 2016. يستمدّ المسرح اسمه من المنزل بوصفه فضاء حميمياً، ومن النظرة إلى العمل المسرحي كعائلة تكبر شيئاً فشيئاً مع الوقت. يعمل الهبر على ذلك من خلال ورش العمل في إعداد الممثل والإخراج، مع المهتمين بالمسرح لمن هم فوق الـ 18 عاماً. وبهذا يستطيع تأمين التكاليف اليومية والإيجار. يشارك المتدربون في العروض تمثيلاً، وأحياناً يقدّمون عروضهم الخاصة. يهدف المسرح إلى إقامة انتاجات جماعية أو ثنائية يتعاون فيها الهبر مع فنانين وكتاب لبنانيين مع رودي قليعاني ومايا سبعلي. و«شغل بيت» بمساحته المتواضعة يتسع لحوالي 40 شخصاً للعروض الصغيرة، فيما يلجأ أحياناً إلى المسارح مثل «مسرح مونو» الذي قدّم عليه عرض «نرسيس» العام الماضي.

مسرح المدرسة
من أول أشكال المسارح في لبنان خشبات المدارس والمعاهد والجامعات. مسرح «مدرسة الفرير» في الجميزة الذي يعود إلى حوالي 130 عاماً هو أقدمها. هنا قدّم مارون النقاش القراءة العربية لمسرحية «البخيل» لموليير، وفق جو قديح. وبإعادة افتتاحه للمسرح عام 2013، بدعم من إدارة المدرسة، يعيد قديح هذا النمط المسرحي القديم لاستقبال عروض حديثة. يشدّد قديح على تعاون إدارة المدرسة معه، ودورها في تخفيف بعض الأعباء المادية. تراوح عروض «مسرح الجميزة» بين الكوميديا والـ «ستاند آب كوميدي» وعروض الأطفال وأخرى قدمت خلال السنوات الفائتة من أرمينيا وفرنسا وتركيا. كما يسعى المسرحي اللبناني إلى تأمين المكان لتمارين وعروض الفرق الأخرى مقابل مردود مادي ضئيل. يتسع المسرح لـ 220 كرسياً، ويقع داخل حرم «مدرسة الفرير».

(مروان طحطح)

الخيارات المدينية التي تتيحها بيروت ضئيلة ربما. لكن البحث عن فضاءات غير تقليدية لا ينفصل عن التوجهات التجريبية لكافّة الفنون المعاصرة التي انحسرت الحدود بينها مع الوقت. هكذا لم يعد المسرحيون ملزمين بالتواجد في الوسط الثقافي المديني. صار بإمكانهم الابتعاد عن الحمرا مثلاً باتجاه مناطق مثل فرن الشباك وبرج حمود وفردان، خصوصاً بعدما ألغت سوليدير أي وجود لمسرح من مخططها لوسط بيروت وساحة البرج. كما أن هذا التوجّه الجديد نحو استثمار فضاءات بهيكليات حديثة، يترافق مع حاجة المسرحيين المعاصرين إلى الحفاظ على الجمهور والتقرّب من يومياته. بعض الفنانين تخلوا عن الفضاء المسرحي التقليدي بشكل كامل، ليؤدوا عروضهم في المساحات العامّة، والأبنية والحدائق، مدفوعين بقناعاتهم وفعالية المسرح السياسية والاجتماعية. في الذاكرة المحلية، هناك بعض الأحداث التي كان فيها المسرح الخارجي أبلغ تعبيراً من بقائه في الداخل، وتحديداً عام 1968، حين هجم عناصر القوى الأمنية على «تياترو بيروت»، وكان ممثلو «محترف بيروت للمسرح» يؤدون «مجدلون». لكن الممثلين من بينهم روجيه عساف ونضال الأشقر توجهوا إلى شارع الحمرا، وواصلوا تقديم العرض في مقهى «هورس شو»، وصولاً إلى «مخفر حبيش» حيث اقتادتهم القوى الأمنية.


احتفالات وعروض
ككل سنة، يحتفل «مسرح المدينة» بيوم المسرح منذ الساعة الحادية عشرة صباحاً. إذ ستعرض مسرحيات مسجّلة لنضال الأشقر خلال كل هذا النهار، إلى جانب رسالة الراحل سعدالله ونوس لعام ١٩٩٦، ورسالة مايا زبيب.
في كلية الفنون الجميلة والعمارة (الجامعة اللبنانية، الفرع الثاني)، سيحتفل بهذا العيد غداً الأربعاء لأسباب لوجستية ذات علاقة ببرنامج النشاطات في الكلية. يقول رئيس قسم المسرح والسينما والتلفزيون في كلية الفنون الجميلة والعمارة (الفرع الأول) وليد دكروب إنّ «هذه السنة مميزة، فمايا زبيب هي أولاً لبنانية وأيضاً هي خريجة الكلية. كان بودّنا أن ندعوها شخصياً لإلقاء هذه الرسالة، لكنها ملتزمة بإلقائها في اليونيسكو في باريس. في هذا النهار، ارتأت فرقة «زقاق» أن يلقي الرسالة الممثل والمخرج جنيد سري الدين. البرنامج الاحتفالي لهذا النهار مؤلف من جزءين: الجزء الأول رسمي فني في مسرح كلية الفنون حيث ستتلى كلمة «زقاق» إلى جانب كلمات رسمية، بالإضافة إلى مشاهد تمثيلية سيقدمها طلاب قسم المسرح والسينما من السنوات الأولى والثانية والثالثة، وسيتم عرض فيلمين قصيرين من أعمال طلاب السينما. الجزء الثاني من الاحتفال يبدأ عند الرابعة بعد الظهر في الباحة الخارجية للكلية، ويتضمن أمسية غنائية يحييها أستاذ وخريج المعهد خالد العبدالله مع مجموعة من الطلاب من الأقسام المختلفة الذين سيقدمون وصلات غنائية مع خالد العبدالله.
وفي «جامعة الروح القدس ـ الكسليك»، تابع قسم المسرح و«محترف الفنون المشهدية والمسرحية» خلال شهر آذار ورشات تدريبية متواصلة مع مدربين من إيطاليا وفرنسا للتمكّن من أشكال مسرحية لم تعد تُلعب في لبنان. وسيعرض المحترف وطلاب قسم المسرح عملاً تحت إشراف فائق حميصي مستوحى من «الكوميديا ديلارتي»، ومعدلاً للتكيف مع القرن الحادي والعشرين.


حكاية بدأت عام 1961
بدأ الاحتفال بيوم المسرح العالمي عام 1961 من قبل «الهيئة الدولية للمسرح»، ويتم الاحتفال به سنوياً في 27 آذار (مارس) في مراكز «الهيئة الدولية للمسرح» وفي المجتمع المسرحي عالمياً. وفي هذا اليوم، تدعى شخصية بارزة في عالم المسرح إلى مشاركة أفكارها وتأملاتها حول أبي الفنون عبر «رسالة يوم المسرح العالمي». وتتم ترجمة الرسالة إلى أكثر من 50 لغة وتتم قراءتها قبل العروض في مسارح العالم، كما تطبع في مئات الصحف اليومية ويتم نقلها على محطات الإذاعات والتلفزيون للمستمعين في جميع أنحاء القارات الخمس. من ضمن مؤلفي الرسائل السابقين: جان كوكتو، آرثر ميلر، بيتر بروك، يوجين إيونيسكو، أريان منوشكين، إدوارد ألبي، داريو فو، جون مالكوفيتش، جودي دينش، أغوستو بوال، إلين ستيوارت، موريث بيجار، بابلو نيرودا، لوشينو فيسكونتي، هيلين فيجل، لورانس أولفييه، سعدالله ونّوس.