كانت ثورة 1968 العالمية نقطة تحوّل، وقد كان لتصاعدها الوجيز والمفاجئ بين 1966 و1970 نتيجتان أساسيّتان. النتيجة الأولى هي نهاية الهيمنة المطوّلة لليبراليّة الوسطيّة (1848-1968) بوصفها الأيديولوجيا الشرعيّة الوحيدة في المنطقة الجغرا- ثقافيّة. من هناك، استردت الأيديولوجيتان اليساريّة الراديكاليّة، واليمينيّة المحافظة، استقلاليّتهما وصارت الليبراليّة الوسطيّة مجرّد واحدة من بين ثلاث أيديولوجيّات متنافسة.النتيجة الثانية هي تحدّي اليسار القديم على نطاق عالميّ من قبل الحركات التي أكّدت أنّه غير معادٍ للنظام، وأنّ وصوله للسلطة لم يُحدث تغييراً يذكر. صار يُنظر إلى تلك الحركات (اليسار القديم) باعتبارها جزءاً من النظام الذي يجب نبذه حتى تأخذ الحركات المعادية له بحقّ، مكانه.
ما الذي حدث بعدها؟ في البداية، بدا كما لو أنّ اليمين المُكرّس حديثاً بصدد الانتصار، حيث أعلن الرئيس الأميركي رونالد ريغان ورئيسة الوزراء البريطانيّة مارغريت تاتشر نهاية هيمنة «النزعة التنمويّة» وحلول زمن الإنتاج المُوجّه إلى السوق العالميّة، ورفعا شعار «لا يوجد بديل». ونظراً إلى انحدار موارد الدول في أغلب العالم، سعى أغلبها إلى تحصيل قروض لا يُمكنها استلامها إلّا بقبولها شروط ذلك الشعار. اضطرت الحكومات إلى تقليص حجمها والتخلي عن الحمائيّة، إضافة إلى إنهاء الإنفاق على الرعاية الاجتماعيّة وقبول عُلويّة السوق. أُطلق على ذلك عبارة «إجماع واشنطن»، وأذعنت جميع الحكومات تقريباً إلى ذلك التحوّل في الاهتمام.
أما الحكومات التي لم تستجب، فقد سقطت من الحكم، وبلغ الأمر ذروته مع الانهيار المذهل للاتحاد السوفياتي. بعد فترة قصيرة من توليها الحكم، اكتشفت الدول المُذعنة أنّ الارتفاع الموعود في الدخل الحقيقيّ للحكومات وأغلب العمّال لم يحدث، وعانت، بدل ذلك، من السياسات التقشفيّة المفروضة عليها. أنتج شعار «لا يوجد بديل» ردود فعل، أبرزها انتفاضة الزاباتيّين عام 1995، والتظاهرات الناجحة في سياتل ضدّ محاولة إحداث ضمانات إلزاميّة حول ما يُسمى حقوق الملكيّة الفكريّة، وتأسيس «المنتدى الاجتماعيّ العالمي» في بورتو أليغري عام 2001 كمقابل لـ«المنتدى الاقتصاديّ العالمي» (دافوس) الذي يمثّل منذ وقت طويل دعامة لذلك شعار.
وباستعادة اليسار العالميّ قوّته، اضطرت القوى المحافظة لتجميع نفسها، وحادت عن التركيز الحصري على اقتصاد السوق، فكشفت وجهها الاجتماعي ـــ الثقافي البديل. في البدء، بذلت تلك القوى الكثير من الطاقة على مسائل مثل معارضة الإجهاض والإصرار على حصريّة السلوك الجنسي الغيريّ. استخدمت مثل تلك المواضيع لجذب أنصارها نحو النشاط السياسيّ، ثمّ التفتت إلى معاداة الهجرة ورُهاب الأجانب، واعتنقت الحمائيّة التي سبق أن عارضها الاقتصاديّون المحافظون على نحوٍ خاص.
لكن أنصار توسيع الحقوق الاجتماعيّة لتشمل الجميع و«التعدديّة الثقافيّة» نسخوا التكتيكات السياسيّة الجديدة وفرضوا بنجاح خلال العقد الماضي تحسينات في مسائل اجتماعيّة ـــ ثقافيّة، فصارت حقوق المرأة وحقوق المثليّين الأساسيّة ثمّ الزواج المثليّ وحقوق الشعوب «الأصليّة» مقبولة على نحو واسع.
ينبغي لليسار العالمي إنشاء حلف بين القوى المعارِضة للتقشّف وقوى التعدديّة الثقافيّة


إذاً، أين صِرنا؟ في البداية، انتصر المحافظون اقتصاديّاً، وكذلك المحافظون في المسائل الاجتماعيّة ـــ الثقافيّة، ثمّ خسروا قوّتهم. مع ذلك، يبدو اليسار العالميّ متعثّراً، ويعود ذلك إلى عدم تقبّله بعد، أنّ الصراع بين اليسار العالميّ واليمين العالميّ هو صراع طبقيّ وأنّه يجب أن يصير جليّاً. ضمن الأزمة الهيكليّة الجارية في النظام العالميّ الحديث، التي بدأت في السبعينيّات وستستمر على الأرجح بين عقدين وأربعة عقود قادمة، لا يتعلّق الرهان بإصلاح الرأسماليّة، بل بالنظام الذي سيخلفها. وإذا أراد اليسار العالميّ أن ينتصر في المعركة، يجب عليه إنشاء حلف صلب بين القوى المعارضة للتقشّف وقوى التعدديّة الثقافيّة، فوحده الاعتراف بأنّ المجموعتين تمثّلان نفس الـ80 في المئة من قاعدة العالم السكانيّة سيجعل الفوز محتملاً. ويجب على هذه القوى النضال ضدّ الـ1 في المئة والسعي إلى استقطاب الـ19 في المئة المتبقين إلى جانبهم، ذلك بالضبط ما أقصده بالصراع.

* عالم اجتماع أميركي ــ من موقعه Commentaries