لا يقدّم معرض «الوطن العائم» صورةَ فلسطين، غير أنه يمنحها اقتراحات مكانيّة وشخصية ورمزية متعدّدة. المعرض الذي تحتضنه «دار النمر للفن والثقافة» (كليمنصو ــ بيروت) يحمل توقيع مصوّرين هما اللبناني فؤاد الخوري (1952)، ومصوّر آخر إيرلندي، كما تقول سيرته الذاتية، هو جيريمي بيكوك (1952). قد يكون جيريمي بيكوك هو أنا الخوري الأخرى، التي تجرؤ على القيام بما يرغب هو سرّاً في فعله، مثل تخلّيها عن حضور المناسبات العامّة. وربما يرى مثلها تشابهاً بين الشعبين الفلسطيني والإيرلندي. أنا أخرى، على غرار عشرات الشخصيات الأدبية المختلفة للكتاب والفنانين، أبرزهم البرتغالي فرناندو بيسوا الذي يرجع الخوري إلى كلماته في تجهيزه «أجمل يوم» (2014) في الطبقة الثانية من المعرض. لكن الأسماء مجرّد أسماء، إذا أردنا أن نحقّق أمنية بيكوك. نتجاوزها بيسر ما إن نرى الصور المعروضة وسكّانها وسيرهم. ثمّة سلسلة مصوّرة لنهاية طريق عند المدخل. 12 صورة بالأبيض والأسود مأخوذة من الزاوية نفسها لطريق إسفلتية مقطوعة، تحيط بها من الجانبين والأمام أرض ترابية مزروعة بالحصى. تمشي سيارة ودراجة هوائيّة وعربة يجرّها حصان بعبثية تعميها عن النهاية التي تغيب أيضاً عن بال أشخاص يحذون حذوها. النهاية أقرب من أيّ شيء آخر. إطار الكاميرا يصطدم هو أيضاً بآخر الطريق وانقطاعها. في بعض اللقطات، لا تتخفف العدسة من رؤية الجدران والأسلاك والبراميل. وحين يمتدّ المشهد على البحر، عندها لن يكون إلا تجريداً آخر للمكان أو إقراراً بالعجز عن القبض على صورته الكبيرة. في كل الحالات، ستبقى الصور ويتلاشى الإطار المكاني. إذ أن أسماء الأمكنة في المعرض تغيب بشكل مقصود عن توصيفات الصور، حيث نقرأ عناوين وتواريخ فقط تمتدّ بين عامي 1982 و1995. طريقة عرض تتخلّى منذ البداية عن الجزم بقدرة الصورة عن التقاط مكان بعينه أو اختصاره في إطار.
لا تنس سلاحك ـ طريق الجديدة (1982 بإذن من فؤاد الخوري وجيريمي بيكوك)

في «الوطن العائم»، تتشكّل فلسطين وتُبنى من خمسين صورة التقطت بين لبنان وفلسطين والبحر، وتغطي 13 سنة من حياة ونضال وشتات شعبها. كأنما لا تفعل شيئاً سوى أن تفتح جدران هذا الوطن على تصوّرات مختلفة بين البحر ومخيّمات اللجوء ومعسكرات النضال والمدن، والتلال، والطرق والمعابر. قبل النكبة بسنوات طويلة، جذبت الجغرافيا الفلسطينية عدسات المصوّرين، تحديداً في السنة التي ابتكر فيها الكيميائي الفرنسي لويس داغير تقنيّته في التصوير الفوتوغرافي في 1839. كانت فلسطين من أوائل «الأمكنة» التي صوّرها فريديريك غوبيل- فيسكي، بسبب السرديات الدينية التي تسكنها. وفي تمهيدها للنكبة وللاحتلال الإسرائيلي وإعادة ترسيم وتقسيم فلسطين، عملت القوات العسكرية البريطانية على تصوير المدن والبلدات، لأنها كانت أفضل ما يُظهر الواقع مقارنة مع الرسم الذي كان مُتّبعاً حتى ذلك الوقت. جاء بعدها الاحتلال الإسرائيلي لفلسطين ليصوّب عدسات العالم إليها، ما جعل ابتكار التنميطات في أطر ورمزيات جاهزة غالباً أمراً شائعاً. ما علاقة الصورة بكلّ هذا؟ وكيف تؤثر السرديات والأحداث التاريخية والسياسية والدينية على بصر المصوّر الذي يأتي ليصوّر المكان نفسه بعد سنوات؟ لن تمنحنا صور الخوري إجابة سهلة، خصوصاً بين مجموعة وأخرى من تلك التي يضمّها المعرض، وهي «الحرب الأهلية» (1977 ــ 1986)، و«أتلانتيس» (1982)، و«فلسطين» (1993 ــ 1995). في السابق، لم يتوقّف عن تصوير الحرب وآثارها بعد انتهائها.

فستان العروس ـ حي الشجاعية ـ قطاع غزة (1995 بإذن من فؤاد الخوري وجيريمي بيكوك)

جال على المدن والمناطق اللبنانية، لكن بيروت ووسطها بقيت لهما الحصّة الأكبر من رحلاته الفوتوغرافيّة. الحرب جعلته مصوّراً. بقيت تلك الندبة التي تطبع صوره، والتي قادته بطريقة ما إلى فترات ما بعد الحروب في العالم، بعيداً عن الحدث، مثل سلسلته «الدمار» التي يقتص فيها مشاهد الركام والهدم من ليفربول إلى فلسطين. من بين الصور المعروضة، تحتوي سلسلته «أتلانتيس» (1982) على القدر الأكبر من «الحدثية التاريخية» رغم أنها تتحوّل في لقطاته إلى رمزيات بصريّة جمالية ومكثّفة تختصر مرحلة كاملة. لدى خروج «منظّمة التحرير الفلسطينية» من لبنان بين 30 آب (أغسطس) والأوّل من أيلول (سبتمبر) عام 1982 وفق اتفاقيّة «غزّة أريحا أوّلاً»، وجد الخوري نفسه على سفينة «أتلانتيس» التي أرسلها رئيس وزراء اليونان أندرياس باباندريو لتقلّ ياسر عرفات إلى أثينا. في نصّ مرفق بالصور التي تعدّ جزءاً فقط من السلسلة الكاملة (80 صورة) يقول إنه لا يعرف حتى الآن لم كان أحد الذين ركبوا فيها. ما هو مؤكّد أن الرحلة كانت مستعجلة فلم يتمكّن إلّا من تأمين 8 بكرات أفلام أسود وأبيض، و8 بكرات أفلام ملوّنة. هكذا التقط تلك اللحظة السياسية الفارقة في تاريخ النضال الفلسطيني والعربي.

عرفات من الخلف (1982 ــ بإذن من فؤاد الخوري وجيريمي بيكوك)

عرفات يدير ظهره إلى الكاميرا؛ كوفيّة من الخلف وبحر من الأمام. البحر يحيط بالباخرة من كلّ الجهات. قد يُرى البحر على أنه استلاب آخر للمكان، خصوصاً أنه حيادي، ولا وجهة فيه، ويفتقر إلى الطابعين المكاني والزمني، ليحلّ مكانهما طابع عبثي يتلقّف الوجهة الهائمة التي انقاد إليها النضال الفلسطيني المسلّح متمثّلاً بمنظّمة التحرير، وبعرفات كوجه له. عرفات ينظر إلى باخرة أخرى بالمنظار، بقبعته العسكرية هذه المرّة. يجلس مسترخياً تحت الساعة. يلهو ويتحدث مع طفل نخالُه سقط بالصدفة هنا. رجلان يقفان على حافّة باخرة تتقاسم مساحة اللقطة مع البحر الذي يمنحها طابعاً أسطورياً وسط السكون. بعد هذا «الحدث الكبير» الذي كان نهاية لحقبة النضال في لبنان، سافر الخوري لاحقاً إلى فلسطين. هناك، أكمل تظهير «الوطن»، وتابع البحث عنه وبناءه. يظهر الاختلاف بوضوح عن صوره للمقاومة في لبنان حيث يجلس المقاتلون في الجبال بأسلحتهم، وتمنح امرأة بندقية ليد تمتد من ناقلة عسكرية. في فلسطين تتبدّى حياة أخرى أكثر عادية. أيام تمضي بمشاغل ضئيلة.
صور ملونة وأخرى بالأبيض والأسود من مجموعاته «الحرب الأهلية» و«أتلانتيس»، و«فلسطين»

المقاتلون يشوون اللحم، ويصبح وجه عرفات مجرّد ملصق على جدار، يعلو أحلاماً فردية تتمثل بفستان عرس معلّق بجوار تلّة من أوراق الملفوف. إحدى التظاهرات هي لعبة كرة قدم أخرى لأجساد يافعة لولا العلم الفلسطيني المرفوع. عبر هذا التوجّه السحري والجمالي الخافت الذي ينتزع تصوّرات كبيرة وشاهقة عن الفلسطيني في بلاده، يصرّ الخوري على التلصص والعبور من شاشة إلى أخرى وإلى حيوات ومشاهد وألوان (الصور الملوّنة في المعرض معظمها من الداخل الفلسطيني). وحين يلتقط العنف، يعثر عليه في بدائل هشة: دمية محطّمة على الإسفلت، وجدران داخليّة متصدّعة أمام براد. كأن هذه التفاصيل العمرانية الداخليّة المخرّبة هي استعارة عن عنف جغرافي ينال من المكان الفلسطيني والذي يظهر في بعض الصور لبراميل وأسلاك شائكة تقرّب عبرها النساء رؤوسهن للحكي ولتبادل القبل ربّما. لكن لا مفرّ من تلك الصور المكثّفة والمؤلمة التي تلتقط معنى الهوية، وتجمّده في ثوان يحتاجها رجل كهل ليخرج بطاقته الزرقاء من قميصه.

* معرض «الوطن العائم» لفؤاد الخوري وجيريمي بيكوك: حتى 27 أيلول (سبتمبر) ـــ «دار النمر للفن والثقافة» (كليمنصو ــ بيروت). للاستعلام: 01/367016



عودة إلى الطرب
ضمن برنامج معرض «الوطن العائم»، تدعو «دار النمر للفن والثقافة» في 2 تموز (يوليو) المقبل إلى عرض فيلم «عودة إلى الطرب» (75 د ــ 2013) لفؤاد الخوري. في 2011 وتحت عنوان «عودة إلى الطرب»، دعا طارق عطوي بعض الموسيقيين ليعزفوا سوياً في حفلتين منفصلتين في نيويورك والشارقة. اختار بعض الموسيقيين أيضاً المشاركة في مرحلة بحث أولية بقيادة كمال قصّار حول الموسيقى التقليدية العربية، في مقر «مؤسسة التوثيق والبحث في الموسيقى العربية في لبنان». يعيد الشريط تقصي هذه اللحظات بين لبنان ونيويورك والشارقة، عندما كانت التحضيرات في بدايتها.

* الثلاثاء 2 تموز ــ 18:30 ــ «دار النمر» (كليمنصو ــ بيروت). للاستعلام: 01/367013