شاعرٌ مُكْثِرٌ، ولكن من دون ديوانٍ مطبوع؛ فيا لَلْمفارقةِ: كل المجلدات الضخمة التي تحمل اسم مظفر النواب، والمسوَّقة في المكتبات والمَعارض وعلى الأرض، ليست إلا تفريغا لإلقاء شفوي، في طبعات مقرصنَة، لم تنل أي واحدةٍ منها رضا الشاعر، اكتمالاً وضبطاً للنص على إلقائه.هكذا تَكَرَّسَ اسم مظفر النواب شاعرا خَطِيباً مُفَوَّهاً وفي لغة خَطَابِيًّة، بإلقاء حماسي وحزين في الآن نفسه، حتَّى كادَ يكون منجزُه الغنائي بْلُوزاً عربيّاً، مقابلَ غناء الشجَن الزنجي الأفروأميركي.
يمكن اختزال كل شعرية مظفر النواب في تقديمه لإحدى أمسياته في نهاية سبعينيات القرن الماضي: «هذه القصائد لم تُكْتَبْ لمناسبة، كتبت لدهر من الحزن والتحدي، لا خوف أن يطول مادمنا ننبض. والأفضلون يحملون السلاح! اغفروا لي حزني وخمري وغضبي وكلماتي القاسية. بعضكم سيقول: بذيئة.. لا بأس، أعطوني موقفاً أكثر بذاءة مما نحن فيه».
تستند أُهْجِيَّاتُ النواب السياسية إلى معجم تطغى عليه ثِيمَتَا الشتيمة والجنس، وهو ما لا ينكره الشاعر، لكنه يضعه، عبر وعي سياسي و همٍّ شعري رهيفين، كمقابل موضوعي إزاءَ ما في الواقع والممارستين السياسية والاجتماعية من بذاءة تكاد تتفوق على ما في النصوص. بشكل من الأشكال، وفي مجازٍ بودليريٍّ، قصائد النواب «أزهار شر» في حديقة الواقع البذيئة.
كموقف ووعي سياسي، وإذا شئنا وضع خطوط توازي بين النواب وصِنْوِه سعدي يوسف، يصير بوسعنا القول إن الأول حافظ على نفس الموقف والخط البياني الثوري الحاد اللهجة منذ بداياته إلى أن اختفى، بعكس سعدي يوسف الذي عرفت مواقفه ارتدادات ومُمَالآتٍ ارتكزت إلى العصبيات العِرقية أحياناً (تجاه الكورد، وعجم العراق عموماً)، والمذهبية أحياناً (تجاه الشيعة خصوصاً، والفُرس عموماً، في مديح غريب ومستغرَب لآل سعود..).
بقيت للنواب نفس الخصومات والعداوات والانحيازات التي لم تغيرها عواذي الزمان ولا العَوَز المادي ولا الوهن الصحي (ضد مشايخ الخليج، والبترودولار، والمطبِّعين؛ مع حَمَلَة السلاح، كيفما كانوا من ثوار ظُفار حتى ثوار إيران الشاهنشاهية والمقاومتين اللبنانية والفلسطينية..)
إن شِيءَ للقارئ (المستمِع) العربي أن يختصر مظفر النواب في قصيدة واحدة، فإنها بالتأكيد الأشهر والأطول والأكثر احتداداً وبذاءةً: «القدس عروس عروبتكم»، التي تتأكد، يوماً بعد يوماً، راهنيتها وصوابية حمولتها الإيديولوجية إلى أن يزول الكيان الطَّارئ.
يبقى من اللازم الإضافة أن منجز مظفر النواب الشعري لم يتحقق في اللغة العربية الفصحى فحسب، بل أيضاً في الزجل الشعبي، الذي أَسَرَّ لي أكثر من شاعر عراقي أنه يتفوَّق فيه أكثر من الفصيح؛ ومن ذلك قول سعدي يوسف في أحد الحوارات معه: «أنا أحب شعره بالعامية العراقية. وهو بمنزلة ميشال طراد اللبناني». ورغم قلة انفتاح الصحافة الثقافية على هذا الجانب الشفوي (المحكي) من مُنْجَز النواب، ربما بسبب صعوبات في تلقي اللهجات العراقية عربياً، فإننا ارتأينا أن نضم إلى ملف هذه المنتخبات، قصيدةً من بين أزجاله، التي تم جمع أجملها في ديوان: «لَلرِّيلْ وْحَمَدْ».
مات مظفر النواب أكثر من موتةٍ في بلاغات صحافية كاذبة وشائعات غير مُحَقَّقة.. ومن الأكيد أن شعره سيحيا أكثر من حياةٍ، على أفواه محبِّيه وفي ما تختزنه الذاكرة الرقمية من إلقاءات ملتهِبة غضباً وشجناً، قَلَّ أن اجتمعا في نفس الذات الشعرية.
ملحوظة: تكاد تكون قصيدة ”البقاع، البقاع“ خلاصة شعرية لمسرحية «المحطة» الرحبانية.
رشيد وحتي

بطاقة
من مواليد عام 1934 في الكاظمية، ينتسب لأسرة ثرية، عرف عنها اهتمامها بالآداب والفن والمراسم الحسينية، أسرة هاجرت إلى العراق من الهند؛ إذ كانوا من أمراء الهند، رغم أنهم في الأساس عائلة عراقية أصيلة تنتسب إلى الإمام موسى الكاظم، هربت إلى الهند إبان ثورات العلويين، ومطاردتهم من قبل سلطات الخلافة العباسية. من هذه المنافي والتَّنكيلات القديمة، تَشَكَّلَ وعي مظفر السياسي المبكر، وخياراته الثورية المؤسَّسَة على واقع معاش أباً عن جد. ستعرض العائلة لأزمة مادية أفقرتها، ولكن أبقتها شامخة. دخل مظفر كلية آداب بغداد وتخرج منها. وبعد قيام ثورة 1958، عيّن مفتشاً فنياً في وزارة التربية في بغداد، انتسب للحزب الشيوعي العراقي، ولمّا اشتدَّ الصراع بين الشيوعيين والقوميين في 1963، تعرض للملاحقة والمراقبة، فهرب إلى البصرة، ومنها للأهواز في إيران، ومن هناك دخل الأراضي الإيرانية محاولاً الهروب إلى روسيا؛ ولكنه وقع في فخ المخابرات الإيرانية، فسلمته مخفوراً إلى الأمن السياسي العراقي، الذي قدمه إلى المحكمة العسكرية، التي أقضت عليه بحكم الإعدام، تدخل الأهل والمعارف، فخففوا عليه الحكم، وسجن في سجن نقرة السلمان الرهيب، في الصحراء القاحلة قرب السعودية، ونقل بعد ذلك إلى سجن الحلة المركزي، واستطاع مع السجناء السياسيين أن يحفروا نفقاً من زنزاناتهم يؤدي إلى خارج السجن، ولما نجحت الخطة، وهرب من السجن توّجه للأحواز العراقية في الجنوب العراقي، ومكث سنة حتى أعفي عنه في 1969، وباشر العمل في وزارة التربية كمدرس للغة العربية، ولكنه ترك التدريس وغادر العراق إلى دمشق، ومنها لعدة عواصم عربية وغربية، ثم رجع واستقر في دمشق حتى عاد للعراق سنة 2011، فلم يطب له المقال في عراقٍ مُحْتَلِّ، فغادر إلى بيروت، بيروت الفضاء العربي الفسيح الوحيد الذي يمكنه أن يقبل به وبخياراته الثورية المستندة إلى الكفاح المسلَّح بالسياسة وذم الطغاة بالشعر، قبل أن يرحل في أحد مستشفيات الشارقة أمس، على أن يوارى ثرى بلاد الرافدين.
رشيد وحتي

1. ثلاث أمنيات على بوابة السنة الجديدة (مقطع)
مَرَّةً أُخرى على شُبَّاكِنا تَبكي/ ولا شَيءَ سَوى الريح/ وحَبَّاتٍ مِنَ الثَلجِ على القَلبِ/ وحُزنٍ مِثلَ أسواقِ العِراقْ/ مِرَّةً أُخرى يَنامُ القَلبُ/ بالقُربِ مِنَ النَهْرِ زُقاقْ/ مَرَّةً أُخرى أُوافيهِم على بُعْدٍ/ وما عُدنا رِفاقْ../ لم يَعُدْ يذكُرني مُنذُ اختلفنا/ أحدٌ غيرُ الطريق/ صارَ يَكفي/ فَرَحُ الأجراسِ يأتي مِن بَعيدٍ/ وصَهيلُ الفتياتِ الشُقر/ يَستنهضُ عَزمَ الزمنِ المُتْعَبِ/ والريحُ مِنَ الرُقعةِ تغتابُ شُموعي/ رُقعةٌ الشُبَّاكِ كَم تُشبهُ جُوعي/ وأثينا كُلُّها في الشارعِ الشتوي/ تُرخي شَعرَها للنَمَشِ الفِضِّيِ/ والأشرطةِ الزرقاءِ واللذَّةِ/ هل أخرجُ للشارعِ؟/ مَنْ يَعرِفُني؟/ مَنْ تَشتريني بِقليلٍ مِنْ زوايا عَينِها؟/ تَفهَم تَنويني وضَمِّي ودُموعي../ أي إِلهي: إِنَّ لي أمنيةً/ أَنْ يَسقُطَ القَمعُ بِداءِ القَلب/ والمَنفيون يعودونَ إلى أوطانِهم/ ثُمَّ رُجوعي../ كُلُّ شَيءٍ طَعمُهُ طَعمُ الفِراقْ/ حينما ترتفعُ القاماتُ لَحناً أُمَمِيًّا/ ثُمَّ لا يأتي العِراقْ/ كانَ قَلبي يَضْطَرب/ كنتُ أستفهمُ عَمَّن وَجَّهَ الدعوةَ/ عَمَّن وَضَعَ اللحنَ/ ومَن قادَ ومَن أَنشَدَ/ أَستفهِمُ حتَّى عَن مَذاقِ الحاضِرينْ/ يا إِلهي: إِنَّ لي أُمنيةً ثانيةً/ أن يًرجعَ اللحنُ عِراقياً وإِنْ كان حَزينْ/ لم يَعُدْ يَذكُرني في الحفلَ غيرُ الاحتراقْ/ كان حفلاً أمميا إِنَّما قد دُعِيَ النفطُ/ ولمْ يُدْعَ العَراقْ/ يا إِلهي: رغبةٌ أُخرى إِذا وافقتَ/ أن تغفِرَ لي بُعديَ أُمِّي/ والشُّجيراتِ التي لم أسقِها مُنذُ سِنينْ/ وانشغالي بينما تَبحَثُ عَنِّي/ وأنا أسلكُ في الدربِ/ وإنْ كنتُ بجيشِ الضائِعينْ/ وأثينا .. آآآآآه مِنْ هذي الأثينا/ لم تُزَرِّر أيَّ شَيءٍ/ عَرضَت فِتنَتَها
والناسُ ما زالوا على أرصفةِ الأمسِ/ سُكارى مَيِّتينْ/ إِيهِ يا بَحْرِّيَةَ الأثوابِ/ أثوابُكِ تُعطي ضِعفَ ما عُريَكِ يُعطي/ وأنا ضاعَفتُ عَينيَّ/ وبعضُ النَّظرِ المُشتاقِ لمسٌ/ ولقد يَهتفُ حتَّى الكُفرُ مَهزوماً أمامَ الحُسْنِ:/ سُبحانَكَ رَبَّ العالمينْ/ قانعٌ مِنْ كُلِّ دُنيايَ بَحُبٍّ مِثلما يُفْطِرُ مَنْ صامَ/ مَدى الدَّهرِ بتمراتِ كُنوزٍ مِنْ عِراقٍ وحَنينْ

2. مو حزن لكن حزين.. (شعر شعبي)
مو حزن لكن حزين
مثل ما تنقطع جوّا المطر
شدّة ياسمين
مو حزن لكن حزين
مثل صندوق العرس ينباع خردة عشق من تمضي السنين!
مو حزن لكن حزين
مثل بلبل قعد متاخر
لقى البستان كلها بلاي تين
مو حزن.. لا مو حزن
لكن احبك من كنت يا اسمر جنين!
خذني يا بحر
خذني خشبة
خذني والبحارة لو نسيوك كلهم.. ما نسيتك!
ما نسيتك
الخشبة عاشت عمر طيب
عشقت كل المخاطر
عاندت.. مشيت بوجه الريح
لكن.. ما كسرها!
وصارت تسافر وحدها
بلا اتجاه..!
وارجع أحط خدي على خدك
يا بحر
خشبة وبحر
خشبة.. خلاص حنينة وكلش حزينة
خشبة لكن حيل أهيب من سفينة!
ما بكيتك
فارقت إنت السفينة
وأنا جايبلك بحر..
جبتلك طوفان الحلم
حلم منذور بغياب الشمس
فارقت حلم الناس
ومليت السفينة والسفر!
ما بكيتك
أنا بكتني السفينة!
منين ما طش الرذاذ.. تريد تِبْحر..
تدري نوبات السفن لو ضاق خاطرها بجبن قبطانها
تسافر وحدها!
ما بكيتك
أنا بكتنني السفينة
تدري نوبات المحبة تملّ
وأحبك للقهر

3. إلى روح سليمان خاطر
ليس بين الرصاص مسافة
أنت مصر التي تتحدى
وهذا هو الوعي حد الخرافة
تفيض وأنت من النيل
تخبره إن تأخر موسمه
والجفاف أتم اصطفافه
وأعلن فيك حساب الجماهير
ماذا سيسقط من طبقات
تسمي احتلال البلاد ضيافه
وليس قتيل نظام يكشف عن عورته
فقط
بل قتيل الجميع
ولست أبرىء إلا الذي يحمل البندقية قلبا
ويطوي عليها شغافه
لقد قبضوا كلهم
وأحقهم من يدافع عن قبضة المال
مدعيا أنها الماركسية أم العرافة..

4. الخوازيق
لله ما تلد البنادق من قيامة
إن جاع سيدها وكف عن القمامة
إن هب لفح مساومات
كان قاحلاً
قاتلاً لا ماء فيه ولا علامة
وهو السلاح المكفهر دعامة
حتى إذا نفذ الرصاص هو الدعامَه
قاسى فلم يتدخلوا
حتى إذا شهر السلاح
تدخل المبغى ليمنعه اقتحامَه
لا يا قحاب السياسة
خلوه صائماً.. موحشاً
فوق السلاح
فإن جنته صيامَه
قالوا مراحل
قولوا قبضنا سعرها سلفاً
ونقتسم الغرامَه
لكن أرى غيباً بأعمدة الخيام
تعرت الأحقاد فيه جهنما
وتحجرت فيه الغلامه
حشد من الأثداء.. ميسرة تمِجُ دما
وحلق في اليمين لمجهض دمه أمامَه
حتى قلامة أظفر كسرت
ستجرح قلب ظالما
فما تنس القلامَه
وأرى خوازيقاً صنعن على مقاييس الملوك
وليس في ملك وخازوق ملامَه
لله ما تذر البنادق حاكمين
مؤخرات في الهواء
ورأسهم مثل النعامَه
ودم فدائي بخط النار يلتهم الجيوش
كما الصراط المستقيم
به اعتدال واستقامَه
لم ينعطف خل على خل
كما سبابة فوق الزناد
عشي معركة الكرامه
نسبي إليكم أيها المستفردون
وليس من مستفرد
في عصرنا
إلا الكرامه

5. وتريات ليلية
أ. الحركة الأولى
في تلك الساعة من شهوات الليل
وعصافير الشوك الذهبية
تستجلي أمجاد ملوك العرب القدماء
وشجيرات البر تفيح بدفء مراهقة بدوية
يكتظ حليب اللوز
ويقطر من نهديها في الليل
وأنا تحت النهدين، إناء
في تلك الساعة حيث تكون الأشياء
بكاءً مطلق،
كنت على الناقة مغموراً بنجوم الليل الأبدية
أستقبل روح الصحراء
يا هذا البدوي الضالع بالهجرات
تزوَّد قبل الربع الخالي
بقطرة ماء
كيف أندسَّ بهذا القفص المقفل في رائحة الليل!؟
كيف أندسَّ كزهرة لوزٍ
بكتاب أغانٍ صوفية!؟
كيف أندسَّ هناك،
على الغفلة مني
هذا العذب الوحشي الملتهب اللفتات
هروباً ومخاوف
يكتبُ فيَّ
يمسح عينيه بقلبي
في فلتة حزن ليلية
يا حامل مشكاة الغيب!
بظلمة عينيك!
ترنَّم من لغة الأحزان،
فروحي عربية
يا طير البرِّ
أخذت حمائم روحي في الليل،
إلى منبع هذا الكون،
وكان الخلق بفيض،
وكنتَ عليّ حزين
وغسلت فضاءك في روح أتعبها الطين
تعب الطين،
سيرحل هذا الطين قريباً،
تعب الطين
عاشر أصناف الشارع في الليل
فهم في الليل سلاطينْ
نام بكل امرأة
خبأ فيها من حر النخل بساتينْ
يا طير البرقِ! أريد امرأةً دفء
فأنا دفء
جسدٍ كفء فأنا كفء
تعرق مثل مفاتيح الجنة بين يديَّ وآثامي
وأرى فيك بقايا العمر وأوهامي
يا طير البرق القادم من جنات النخل بأحلامي!
يا حامل وحي الغسق الغامض في الشرق
على ظلمة أيامي
أحمل لبلادي
حين ينام الناس سلامي
للخط الكوفيّ يتم صلاة الصبح
بإفريز جوامعها
لشوارعها
للصبر
لعليٍّ يتوضأ بالسيف قبيل الفجر
أنبيك عليّاً
مازلنا نتوضأ بالذل
ونمسح بالخرقة حد السيف
ما زلنا نتحجج بالبرد وحر الصيف
ما زالت عورة عمرو العاص معاصرةً
وتقبح وجه التاريخ
ما زال كتاب الله يعلَّقُ بالرمح العربية
ما زال أبو سفيان بلحيته الصفراء،
يؤلب باسم اللات
العصبيات القبلية
ما زالت شورى التجار، ترى عثمان خليفتها
وتراك زعيم السوقية
لو جئت اليوم،
لحاربك الداعون إليك
وسموك شيوعية
أتشهّى كل القطط الوسخة في الغربة
لكل نساء الغربة أسماكٌ
تحمل رائحة الثلج
وأتعبني جسدي
يا أيَّ امرأة في الليل!
تداس كسلة تمر بالأقدام
تعالي!
فلكل امرأة جسدي
وتدٌ عربي للثورة، يا أنثى جسدي
كل الصديقين وكل زناة التاريخ العربي
هنا أرثٌ في جسدي
أضحك ممن يغريني بالسرج
وهل يسرج في الصبح حصان وحشيٌّ
ورث الجبهة من معركة اليرموك
وعيناه الحيرة
والأنهار تحارب في جسدي!؟
قد أعشق ألف امرأة في ذات اللحظة،
لكني أعشق وجه امرأة واحدة
في تلك اللحظة
امرأة تحمل خبزاً ودموعاً من بلدي.
ب. الحركة الثانية
وجيء بكرسيّ حُفرت هوة رعب فيه
ومزقت الأثواب عليّ
ابتسم الجلاد كأن عناكب قد هربت
أمسكني من كتفي وقال،
على هذا الكرسيّ خصينا بضع رفاق
فاعترف الآنَ
اعترف
اعترف
اعترف الآنَ
عرقتُ.. وأحسست بأوجاع في كل مكانٍ من جسدي
اعترف الآن
وأحسست بأوجاع في الحائط
أوجاع في الغابات وفي الأنهار، وفي الإنسان الأوّل
أنقذ مطلقك الكامن في الإنسان
توجهت إلى المطلق في ثقة
كان أبو ذرٍّ خلف زجاج الشبّاك المقفل
يزرع فيّ شجاعته فرفضت
رفضت
وكانت أمي واقفة قدام الشعب بصمت.. فرفضت
اعترف الآن
اعترف الآن
رفضت
وأطبقت فمي،
فالشعب أمانة
في عنق الثوري
رفضتُ
تقلص وجه الجلادين
وقالوا في صوت أجوف:
نتركك الليلة..
راجع نفسك
أدركت اللعبة
في اليوم التاسع كفّوا عن تعذيبي
نزعوا القيد فجاء اللحم مع القيد،
أرادوا أن أتعهد،
أن لا أتسلل ثانية للأهواز
صعد النخل بقلبي..
صعدت إحدى النخلات،
بعيداً أعلى من كل النخلات
تسند قلبي فوق السعف كعذقٍ
من يصل القلب الآن!؟
قدمي في السجن،
وقلبي بين عذوق النخل
وقلت بقلبي: إياك
فللشاعر ألف جواز في الشعر
وألف جواز أن يتسلل للأهواز
يا قلبي! عشق الأرض جواز
وأبو ذرّ وحسين الأهوازي،
وأمي والشيب من الدوران ورائي
من سجن الشاه إلى سجن الصحراء
إلى المنفى الربذي، جوازي
وهناك مسافة وعي،
بين دخول الطبل على العمق
السمفوني
وبين خروج الطبل الساذج في الجاز
ووقفت وكنت من الله قريباً
موت علمني الدنيا
ونبي علمني أن أقتحم اللج وأحمل في الماء قناديل
الرؤيا
ألهمني الدرب السري
فلما حدقت أضأت
رأيت وجوها في بئر النور
كأني أعرفها أكثر مما أعرف ذاتي
ومددت يدي
فاختلج البئر وغابوا

6. البقاع، البقاع (مقطع)
لم يعد في المحطة إلا الفوانيس خافتة
وخريف بعيد بعيد
وتترك حزنك بين المقاعد ترجوه أن يسرق
تعطي لوجهك صمتا كعود ثقاب ندي
بإحدى الحدائق
إن فرشت وردة عينها يشتعل
وتجوز خط الحديد
كأنك كل الذين أرادوا الصعود ولم يستطيعوا
أو انتظروا
أو كهاوٍ اكتظ دفتره بالدموع
دموعك صمت
ثيابك بدعة صمت مقلمة بالبنفسج
لم يبق زر بها
وحقيبة حزنك قد ضيعت قفلها
لم تُزَرِّرْ قميصك... بنطالك الرخو
لم يبق شيء يزرر
لا أنت
لا صوتها
لا المحطة
لا الأمس
آخر قاطرة سلمت نفسها لم تقاوم
على فكرة
صوتها طائر ينهل الصبح من لوزة
سلمت نفسها
آخر القاطرات انتهت..
سلمت نفسها لم تقم
أخذت رجائي وصغرته سنتين
وأجلسته فوق مصطبة سكرت من أريج النساء
لا تقلب متاعي الحزين أمام الأجانب
فالثياب القديمة مثل البكاء
وأخذت الهوية منه
ووجه الهوية مما مسحت الإساءات
لم يبق فيها انتماء
لم يعد في المحطة إلا الفوانيس خافتة
وخريف يسير بعكاز ورد
وتترك حزنك بين التذاكر
ترجوه أن يُذْكَرَ في منزل
في طريق بطيء التذاكر
قاطرة أصبحت مسكنا
وتقدم وجهك عود ثقاب
لكل الذين قد استُهْلِكوا
وعلى علبة الأمس
تقتات
تسحب نفسك
أمسك
في نفس هادئ
ونساء ببهو الثلاثين ضاعت تذاكرهن الرخيصة
تدفع تذكرتَيْكَ وتبتاع لمسة نهد مصغرة
وعلى فكرة
أنت من أشد الحزن والصمت تقطع تذكرتين لنفسك
تقطع حزن... حزن
تقطع كل القطار تبيع دموعا وحلوى
لأن القطار بلا امرأة أو صديق أنت دخلت ليالي الشتاء
ساكنا كالصخور الحزينة في قمة الليل
تبكي بكاء الصخور المنيعة
تجتازها الريح في آخر الليل
لم يبق من نجمتيك سوى ثؤلولتين وتبتسمان
تبتسمان كثيرا
ووجهك عرش من الشهوات تهدم
طال احترام النساء له
والسكارى حزانى
كأن حصانا من الشمع قبل الصهيل يذوب
كأنك طيب من الشمع لم تنطبق شفتاه ثلاثين عاما
وتهرب من قاعة الشمع
من خطب الشمع
والحاضرون يتيهون فوق الكراسي
تمنيت لو هذه الثلاثين عاما تنظف مغسلة
أو تبلط حجرة حزن
تمد الحديقة سكتها النرجسية صوبك
أنت مرايا تصير إذا لمستك الحديقة
أو غمزة تنام بزهرتها في المساء
كيف تستأجر الانتحار بدرب طويل
وتقطع تذكرة وتمزقها وتقدر ثانية
تستدين من الصحب جرعة خمر
وتذكرة ثقب مرتين
ورقعة ود
كأنك صندوق جمع الإعانات للحزن
تخدعهم في القطار
تفضل
وتحني أمام المفتش رأسك ليس احتراما له
بل لثقوب البطاقة
مثقوبة
مرة.. مرة سيدي
مرتين
ويتلبث وجه من الشمع يأخذ منك اشتياقك
يأخذ منك البطاقة
يأخذ منك الهوية
انزل..
نزلنا
ويلقى الهوية قد مسحت مرتين
صحبك المدمنون على نفسهم غادروا مرتين
أغلقوا الحجارة والصمت ولا مبالاة أبوابهم
والغبار بلون البنفسج يا سيدي
إنهم يكنسون السكارى
مناخ من الذكريات المطيرة
من عبروا الجسر لم يعبروا
والذين غنوا الأغنيات يَرِينُ السكوت عليهم
وهذي البطاقة قد عبرت أحدا مرتين
ريقها بارد.. بارد مثل جرار قبر الحسين
كنت في حاجتين لها
تفتح الباب في كبكاء الحرير
وتفتح أفواهها وحكاياتها وبطاقتها النرجسية
في دفئك العائلي الخطير
ثم ترفعها آخر الليل قارورة من عقيق
وتسكبها في ذكاء السرير
كنت في حاجة لكتابة شيء أخير
لم يعد أحد في المحطة
عادوا لأحزانهم أو هم اختطفوا مثلما يحصل الآن في كل يوم
أو استعملوا كالقناني الجميلة
أو بالقناني الجميلة
أو استهلكت نارهم
وغفوا بين رماد السنين
لم يعد سيدي..
ورجائي رجاء البنفسج أتلفت نفسك بالشرب
أي قطار بهذا المساء الحزين
انتظر انتظر
انتظر أيها الصاحي جدا
هنالك قاطرة للبكاء تقل المغنين والحالمين
ألغيت
خذ إذن جرعة
رغم أن الجمهور والخمور بهذي المحطة مغشوشة
ربما تفهم اللغز
سوف أروي المحطة فاصبروا
تعطي دخانا بلون المناديل والقبعات
تهز قناديلها أكثر مما لنا
كتب اللّه فوق الجبين
إن تأخرت أغلق برقية الحزن للصمت
قد أخرتني
وأغلق الياسمين
أغلقت بابها
ما طرقت احتراما لغفوتها ولعشقي
وما أخرت بالباب حزني طويلا
رأيت مفاتيح غرفتها
ومشابكها
ومشداتها
وانتظاري بأيدي سكارى الموانئ
بكيت البلاد التي تقتل العاشقين
أين كانت كلاب حراستها
أم تراها تهز الذيول لمن يعتليها
وترسل أنيابها بالشحارير
إن كان صوتي أقل الشحارير شأنا فلم يرتجف
والمخالب تقدح حولي
ولا غيرت وزناتي لغير الهوى والحنين
أغرب الأمر.. بعض الشحارير
لما رأتني لست أحط على الفضلات كأحوالها
نبحت كالكلاب
إلهي إني كفيل بتلك تكفل بهذي
فأنت خلقت لها جناحا لها لتغني
فصارت تهز
تعظ وأخشى أن تعضك أنت كما الآخرين
لم تعد بلدة لا تراني كلابا مدربة
ضد من يرفعون مزاميرهم للصباح
فأين البقاع؟
أحذره من دخول الكلاب بكل انتماءاتها
ليظل بلادَ البنادق والأغنيات
وكل الذين على دهرهم خارجين
سوف أوري المحطة
بيت لنا بالبقاع أمين.. أمين
يعشي البساتين..
يملأ مخزنها بالرصاص
وبين حراساته
أغنيات عن القاعدين بحضن المنى في
أيبقون في حضنها قاعدين
ولدتنا البنادق يوم الكرامة
والأمهات لهن حقوق على البالغين
أنت يا مدفعا
يا إلها يمد بقامته بين زيتونتين بقاعتين
وينشق خطين مما ارتفاعك في الجو
لون السماء وسرب الغمام وسرب الحمام
كأن حديدك يفقد وزن الحديد لسرعته خلف أسرابهم
ليت كل المدافع تقرأ ما أنت قارئه في الظلام
ارفع الكف بصيرة جرحت نفسها
لونت وجهها وردة
في الضباب المشاغب عشقا
وأترك خطوة حب
تغرد ما بيننا بالرضا والرؤى والسلام
باليدين الفدائيتين غدوت إله

قصيدة شهادة
سعدي يوسف: عُرسُ بناتِ آوى

أمُظَفّرُ النوّاب
ماذا سوف نفعلُ، يا رفيقَ العُمْرِ؟
عرسُ بناتِ آوى.. أنتَ تعرفُهُ قديماً :
نحن نجلسُ في المساءِ الرّطبِ تحتَ سقيفة القصبِ؛
الوسائدُ والحشايا من نَديفِ الصوفِ
والشايُ الذي ما ذقتُ طعماً، مثله، من بعدُ،
والناسُ..
الظلامُ يجيءُ، مثل كلامنا، متمهِّلاً
والنخلُ أزرقُ
والدخانُ من المواقدِ كالشميمِ،
كأنّ هذا الكونَ يبدأُ..
..
فجأةً، تتناثرُ الضحكاتُ، بين النخلِ والحَلْفاءِ :
عرسُ بناتِ آوى !
***
أمظفّر النوّاب
ليس اليوم كالأمسِ (الحقيقةُ مثل حُلمِ الطفل)
نحن اليومَ ندخلُ فندقاً للعرسِ
(عرسِ بناتِ آوى)
أنتَ تقرأُ في صحائفهم قوائمَهم
فتقرأ :
يمرّونَ بالدَّهنا خفافاً عِيابُهُم ويخرجْنَ من دارِينَ بُجْرَ الحقائبِ
على حينِ ألهى الناسَ جُلُّ أمورِهم فَنَدْلاً زُرَيقُ المالَ ندْلَ الثعالبِ
**
أمظفّرُ النوّاب
دعنا نتّفقْ..
أنا سوف أذهبُ نائباً عنكَ
(الشآمُ بعيدةٌ)
والفندقُ السرِّيُّ أبعَدُ..
سوف أبصقُ في وجوه بناتِ آوى
سوف أبصقُ في صحائفهم
وأبصقُ في قوائمهم
وأُعلِنُ أننا أهلُ العراقِ
ودوحةُ النَّسَبِ
وأُعلِنُ أننا الأعلَونَ تحتَ سقيفةِ القصبِ..
لندن، 11.12.202