بدا رحيل كوكب حمزة (1944- 2024) في منفاه الدانماركي صورةً نموذجية لجيل من العراقيين الذين توزعتهم المنافي هرباً من الاستبداد الذي طحن مثقفي اليسار بالمفرّق والجملة، ولكن الموسيقار العراقي الذي غادر بغداد منتصف سبعينيات القرن المنصرم، كان قد ترك بصمته الموسيقية واضحةً في حناجر كوكبة من المغنين الذين أطلقوا الأغنية العراقية عربياً، أمثال سعدون جابر، وحسين نعمة، وفاضل عواد، ورياض أحمد، وفؤاد سالم. وإذا بأغنية «يا طيور الطايرة» بصوت سعدون جابر، تحلّق عالياً خارج السرب، كما كانت تعبيراً عن الهجرة القسرية بعيداً عن هواء بلاد النخيل. ذلك أنّ كوكب حمزة الذي درس الموسيقى أكاديمياً، أضاف نبرةً مختلفة إلى السلّم الموسيقي العراقي بما يشبه منعطفاً حاداً وضع الأغنية في مقام الشجن والبهجة اللحنية في نوتة واحدة، بعد مقام نواحٍ بغدادي طويل طبع هذه الأغنية بأصوات ناظم الغزالي، وياس خضر، وسليمة مراد ويوسف عمر وآخرين. هكذا مزج هذا الملحن المتفرّد بين ماء دجلة وماء النيل في مجرى موسيقي واحد، لاطّلاعه على الألحان المصرية وربما التأثّر بها، وخصوصاً أعمال رياض السنباطي وبليغ حمدي. وهو ما نجده واضحاً في أغنية «ابن آدم» لحسين نعمة على سبيل المثال التي تزاوج بين الشجن الكربلائي والإيقاع المستعار في بعض الجمل اللحنية من المزاج الإيقاعي الذي يميّز موسيقى بليغ حمدي، فيما يبرع في ابتكار نوتة نافرة في أغنية، «يا نجمة» بصوت حسين نعمة، و«يا هوى الناس» بصوت سعدون جابر الذي لمع نجمه على رافعة ألحان كوكب حمزة. عدا «يا طيور الطايرة»، سيحلّق بأغنية أخرى هي «القنطرة بعيدة» إحدى أهم أيقوناته الموسيقية لجهة الشجن والصورة المبتكرة شعراً وموسيقى. هكذا برز المغنّي وقبع الملحّن في الظل بسبب بعده عن بغداد في عزّ ازدهارها، حتى إنّ سعدون جابر اضطر إلى شطب اسمه عن لحن «يا هوى الناس» ووضعه باسم محسن فرحان هرباً من بطش الرقابة في حال علم الرقيب الأمني بأنها لملحن غير مرغوب فيه لأسباب سياسية.
ترك بصمته الموسيقية في حناجر كوكبة من المغنّين الذين أطلقوا الأغنية العراقية عربياً


يتذكّر القاصّ محمد خضيّر أثناء زيارة جماعية إلى الملحن الشاب الذي كان يقطن غرفة في أحد الفنادق مطلع السبعينيات، كيف جذبتهم أوتار عوده إلى البروفات الأولى للحن «يا نجمة» التي خرجت من تلك السماء الضيّقة إلى رحاب الدنيا: «كان الاستماع لصوت كوكب المتطوّح، دعوة للانغمار بحنين لشيء مفقود، لم يعلم أحد منا كيف يستدلّ عليه أو يتثبّت من حقيقته. إذ لم يكن النغم غير قنطرة ممتدّة على مرتفع مرصّع بالنجوم، كما بالمخاوف، والنظرة العالية التي ترى الواقعَ الأسفل وتدعو لاكتشافه، قلبياً وفجائياً، بإحساس فرديّ ولسان شعبيّ. وربما هذا ما كنا نفتقده حقاً: التوفيق بين الوعي الثقافيّ المتعالي والحسّ العام المرتجَل في أغنية قلبيّة». كأنّ «أسطورة الحناجر الآفلة لن تتكرّر تحت النجوم». في استرجاع سيرته الموسيقية سنكتشف وضوح بوصلته منذ بداياته، حين التفت إلى أشعار مظفّر النواب ولكنه لم يسجّل لحنيه لقصيدتي «للريل وحمد»، و«حن وأنا حن» فطويا في أدراج الذاكرة فقط. وبعد 50 لحناً، توقّف الموسيقار العراقي عن العطاء، أو أنه لم يستكمل مشاريعه المؤجلة ذاهباً إلى لذّة العيش مهاجراً بين البلدان، فالعمر حسب أحد ألحانه «محطّات»، وهو ما فعله في تجوال من دون توقّف ما بين المهجر ودمشق والقاهرة وأربيل إلى أن انطفأ في الدانمارك أول من أمس، موصياً بدفنه في المنفى بعدما نبذته بغداد طويلاً.
رحل كوكب حمزة بكل ألفته وشجنه وبقت «طيوره الطايرة».