لم يكن مجرّد سفر في الجغرافيا. كانت رحلة باتجاه زمن سحيق. هنا جنوبَ صحراء الربع الخالي. أحسُّ كما لو أنني عدت إلى زمن لم يعد موجوداً إلا في بطون الكتب. سلاماً من نجران، هذه المدينة التي فيها بعض ملامح زاكورة والراشيدية وورزازات. الرحلة من الدار البيضاء إلى جدة كانت طويلة. لكنني جرَّبتُها في سفر سابق. المدهش هذه المرة رحلة نجران، هنا جنوب الربع الخالي: أكبر حوض رملي في العالم. هنا على الحدود السعودية اليمنية. المطر الذي تهاطل ما زالت آثاره بادية في الشوارع: بِرْكةٌ هنا، طميٌ هناك. الجو لطيف بسبب المطر الذي كان، والرطوبة ليست عالية كما هي الحال في جدة. ووادي نجران الذي يخترق المنطقة ليصب في رمال الربع الخالي يبدو منكمشاً على مائه القليل. هناك، كان افتتاح المهرجان (مهرجان «قس بن ساعدة الثقافي»). وبعدها، زرت «الأخدود» ليكتمل استكشافي للمكان. تعرفون القصة؟ قصة ملك حِمْيَر اليهودي يوسف ذو نواس الذي خيَّر أهل نجران النصارى بين النار واليهودية. وحين تشبثوا بدينهم، شقَّ الأخاديد وأحرق منهم فيها 12 ألفاً في واحدة من أبشع مشاهد الإكراه في الدين التي رفضها الإسلام وأدانها القرآن. الآية معروفة في سورة البروج: «قُتِلَ أصحاب الأخدودِ، النّارِ ذاتِ الوقودِ، إذ هم عليها قُعود، وهم على ما يفعلون شُهود». وطبعاً، كان من نتائج مذبحة الأخدود غزو النجاشي، ملك الحبشة، لجنوب الجزيرة العربية واحتلالها.
سلاماً من نجران، حيث حلت نخبة من الأدباء العرب في المدينة للاحتفاء بأسقفها الحكيم: قس بن ساعدة الإيادي صاحب الخطبة الشهيرة: «أيها الناس، اسمعوا وعوا، وإذا سمعتم شيئاً فانتفعوا، إنه من عاش مات، ومن مات فات، وكل ما هو آتٍ آت. إنَّ في السماء لخَبَرا، وإن في الأرض لعِبَرا. ليلٌ دَاج، ونهار سَاج، وسماءٌ ذات أبراج، وأرضٌ ذاتُ فِجاج، وبحارٌ ذات أمواج. ما لي أرى الناس يذهبون ولا يرجعون؟ أَرَضُوا بالمقام فأقاموا أم تُرِكوا هناك فناموا؟ تبّاً لأرباب الغافلة والأمم الخالية والقرون الماضية... يا معشر إياد، أين الآباء والأجداد؟ وأين المريض والعواد؟ وأين الفراعنة الشداد؟ أين من بنى وشيَّد، وزخرف ونجَّد؟ أين من بغى وطغى، وجمع فأوعى، وقال أنا ربكم الأعلى؟ ألم يكونوا أكثر منكم أموالاً، وأطول منكم آجالاً؟ طحنهم الثرى بكلكله، ومزقهم الدهر بتطاوله، فتلك عظامهم بالية، وبيوتهم خاوية، عمرتها الذئاب العاوية. كلا بل هو الله الواحد المعبود، ليس بوالدٍ ولا مولود».
سلاماً من نجران. من «مهرجان قس بن ساعدة»، أول من خطب على مكان مرتفع حتى يُسمع صوته ويُرى أمام الناس. وأول من قال في خطبته: «أما بعد»، صاحب العبارة البليغة: «البيّنة على من ادّعى واليمين على من أنكر». عاش نصرانياً ومات نصرانياً رغم أنه أدرك الإسلام، لكن بقاءه على دينه لم يمنع النبي من الترحّم عليه قائلاً: «رحم الله قساً، يُبعث يوم القيامة اُمَّة وحده».
هنا في نجران، ما زالت الكثبان الشاهقة مرتعاً للمها وغزال الرّيم وغزلان التلال. فتحتُ شرفة غرفتي فرأيت جبلاً بديعاً يشبه جبل كيسان الذي يحرس بساتين أكدز والقرية والسوق القديم هناك في عمق وادي درعة. كأنَّ الجبلَ نفسُ الجبل، والوادي ذات الوادي. ياه، كم تتشابه الأمكنة رغم بعد المسافات، كم تتشابه الأحداث رغم اختلاف العصور، كم يشبه الانسان الإنسان مهما اختلف الزمان والمكان.