مارس رئيف خوري نضالَه الوطني ـ القومي العربي على جبهات كثيرة، هي: جبهة النضال السياسي (الدعوي) المباشر، وجبهة التأليف السياسي ـ الشعري من أجل فلسطين، وجبهة العمل التربوي، وجبهة النقد الأدبي واللغوي، وجبهة النضال على المستوى الفكري التنظيري.
1 ـ جبهة النضال السياسي المباشر
يخبرنا ميشال سليمان أنّ رئيفًا رسب في عامه الأوّل في الجامعة الأميركية بسبب انشغاله في أمور السياسة، حتى خيّره أبوه بين الاجتهاد في التحصيل أو الرفش، فاجتهد حتى نجح (مجلة "الفكر الجديد"، 1، 1968، ص 25). وهذا يعني أنّ النضال السياسي بدأ في أولى مراحل شبابه، قبل أن يتطور لاحقًا في غير ساحة وميدان.
حتى إذا حلّ العام 1935 وجدناه ينتقل إلى التدريس في فلسطين، فيشارك في تنظيم المظاهرات والإضرابات التي سبقتْ ثورةَ 1936، ويصوغ بالاشتراك مع رجا حوراني وخليل البديري ومثقفين آخرين مطالبَ "الإضراب الكبير" التي يمكن تلخيصُها بـ: وقف الهجرة اليهودية، ووقف بيع الأراضي، وإقامة حكومة وطنية، وتجريد الصهاينة من الأسلحة. ثم لا يلبث أن يُدعى إلى الخليل ونابلس ومدن فلسطينية أخرى للخطبة في الناس ضدّ بريطانيا والمتعاونين معها.
عام 1938 مثّل رئيف خوري الشبابَ العربي في "مؤتمر الشبيبة العالمي الثاني" في إحدى ضواحي نيويورك، فهاجم الانتدابَ البيريطاني، ودافع عن حقّ الفلسطينيين في تقرير مصيرهم. كما خطب أمام جماعة من اليهود، فبيّن أنّ النازية والصهيونية تعاونتا على اليهود، وأنّ النازية "عصا الإرهاب التي أجْلتْ جماهيرَ من اليهود عن أوطانهم وسلّمتْهم إلى الوكالة الصهيونية بضاعةً بشريةً تهجّرُها إلى فلسطين" (ميخائيل عون، "الروّاد في الحقيقة اللبنانية"، بيروت 1984، ص 141-142).
نتيجةً لموقفه الفلسطيني هذا، وعقب حملات صهيونية أميركية إعلامية، منعه المندوبُ السامي البريطاني من دخول فلسطين، فعاد إلى بيروت. لكنّ الأوامر البريطانية لاحقته، فصدر قرار سنة 1940 بفصله من مدرسة الآي.سي التي كان قد بدأ التدريس فيها.
عام 1941 أصدر جريدة "الدفاع"، التي جاء في شعارها أنّها "جريدة يومية سياسية" وأنها "تناضل من أجل الديمقراطية الصحيحة" في وجه "خطر النازية المستفحل"، ومن أجل تكوين جبهة عالمية يكون "لفرنسا الحرّة" مكانٌ عزيزٌ فيها. لكنّ المجلة لم تستمرّ إلا لأعداد ستة (أحمد علبي، مجلة النداء، منتصف أيلول 1985).

2 ـ جبهة التأليف السياسي ـ الشعري من وحي فلسطين
من وحي فلسطين، ألّف رئيف كتابين رئيسين:

أ ـ "جهاد فلسطين" (1936). وفيه يعرض أطوارَ الإضراب الكبير من مرحلة العفوية إلى مرحلة الثورة المسلحة. فينفي أن يكون هذا الإضراب قد تلقّى دعمًا أجنبيًّا (إيطاليًّا)، ويفصّل الكلامَ على وحشيّة الإنكليز ضدّ الشعب الفلسطيني ويعتبرهم حلفاءَ للصهاينة. بيْد أنّ أهمّ ما في الكتاب هو توعيتُه العربَ، منذ ذلك العام (1936)، إلى أنّ الكيان الصهيوني ـ في حدّ ذاته وفي كونه موطئَ قدمٍ للاستعمار البريطاني ـ سيشكّل خطرًا على سائر الأقطار العربية، التي يدعوها إلى التوحّد، من غير أن يستثني "الأغنياء الطيبين" بل "ملوكَنا وأمراءَنا" الذين ينبغي أن "نحرص على إفهامهم أنّ مستقبلهم وكرامتهم في أن يتعاونوا معنا لا أن ينكرونا".
ب ـ "ثورة بيدبا" (1936). وهي مسرحية شعرية تتخذ من قصة تقع ضمن كتاب "كليلة ودمنة" لابن المقفّع إطارًا عامًّا لثورةٍ يدعو إليها رئيف، مستوحاةٍ من صميم الحياة التي عاشها في فلسطين (ولبنان). وفيها يدعو إلى وحدة الشعب على اختلاف طوائفه، والى الثورة الحمراء ضدّ الظلم وواقع النزوح.
ج ـ كما نشر في مجلة الطليعة عام 1939 أقصوصتين نابعتين من معايشة المأساة الفلسطينية: "شاعر قبل الشنق" و"الرماد". الأولى مستوحاة من قصيدة بعثها إليه ثائرٌ ينتظر حكمَ الشنق، والثانية مسرحُها قرية صرفند الفلسطينية إثر احتلالها (الجدير ذكرُه أنّ الصرفند دُمّرتْ وهُجّر أهلُها عام 1948).

3 ـ جبهة العمل التربوي
رئيف أستاذ ومربٍّ في الدرجة الأولى. قضى سنواتٍ طويلةً في تدريس الناشئة، وفي كتابة منهاج رشيق وجميل للأدب العربي. ولم تنحصر مهنة التعليم لديه في لبنان، بل عمد ـ تأكيدًا لالتزامه القومي الأصيل على الأرجح ـ إلى السفر إلى سوريا عام 1933، حيث درّس الأدبَ العربي في طرطوس، ثم انتقل بعد عامين إلى فلسطين مدرسًا للأدب والترجمة والتعريب في مدرسة المطران غوبات.
غير أنّ البعد الوطني ـ القومي في عمله التربوي تجلّى أكثر ما تجلّى في إعادة صياغته لصفحاتٍ مشرقةٍ من التراث العربي كي تكون في متناول الناشة، ولكي تسهم في جعلها أكثر التصاقًا بتاريخها العربي وبالمعاني الإنسانية فيه. وهذا لعمري من أشرف النضالات الوطنية والقومية والإنسانية!

4 ـ جبهة النقد الأدبي
النقد الأدبي مجال بالغ الأهمية في عمل رئيف الوطني والقومي. فهو يَنْشد، كما قال،" "نقدًا معبّرًا حقًّا عن القومية العربية التحررية" ("الأدب المسؤول"، ص 174). ولذلك لم يكن عبثًا أن يركّز نقده على الإشادة بالنواحي الوطنية والقومية في النص الأدبي، وأحيانًا على حساب الأسلوب والمبنى؛ فعلى سبيل المثال انتقد ضعفَ الابتكار لدى معروف الرصافي، لكنه استدرك قائلًا:
"تخيّلْ نفسَك أنّك دخلتَ إلى متحفٍ عربيّ عريق، وأراك الدليلُ سيوفًا ورماحًا... ورأيتَ كلَّ شيءٍ مثلومًا أو مغطًّى بالصدأ...فهممتَ بالانصراف، فقال لك الدليلُ فجأةً: إنّ ما تراه... كان عدّةَ العرب في يوم ذي قار... أمام العرش الكِسْروي... وهذه أشعارُ الرصافي...سلاحٌ ماضٍ سُلّ على عهد القهر الحميديّ وشُرّع في وجه المستعمرين... وهذا السلاح لا يزال فيه نفعٌ وقوة" (الطريق 10/5/1945، ص 24).
الأدب "الصحيح"، على ما أكّد رئيف، ينبغي أن يضمّ عناصرَ أربعة: أ) الجرأة على مجابهة الواقع. ب) فهم العوامل التي سبّبتْه. ج) تخطيط الطريق لتبديله بأحسنَ منه. د) المضيّ قُدُمًا في هذه الطريق بلا تردّد (مجلة الطليعة، 6 و7، 1936، ص 618). كان ذلك قبل الهبّة الناصرية؛ فأمّا بعدها فقد أضاف رئيف إلى مستلزمات الأدب الصحيح عناصرَ "قوميةً" ينبغي أن تتضافرَ مع العمل السياسي المباشر من أجل: أ) قلع الاستعمار من أيّ بلد عربي. ب) صدّ كلّ استعمار يطمع في التسرّب إلى أيّ بلد عربي. ج) محاربة الدسّ والتفريق والاستغلال الطائفي. د) تحقيق الاستقلال والسيادة الوطنية التامة. هـ) خلق النظام السياسي والاجتماعي الصالح، أي الذي يجمع ـ في رأي رئيف ـ بين الحرية والديمقراطية والعدالة الاجتماعية. و) إقامة التآخي والتعاون التامّ بين الدول العربية. ز) مكافحة العدوان أينما وُجد وفي أيّ صورة برز (مجلة الآداب، 5، 1957، ص 5). ومن هنا ركّز رئيف على الأدباء والشعراء الذين يضعون موهبتهم، شأن جميل صدقي الزهاوي، "لخدمة الأمّة العربية، مرشدًا محمّسًا لها، هاتفًا عند نجاحها، متأثّرًا عند انخذالها" (سماح إدريس، "رئيف خوري وتراث العرب"، ص 106). ومن هنا تحديدًا احتفاؤه بأدب القيم الفاضلة، وهي بالضرورة قيم وطنية وقومية وإنسانية، كالتضحية والدفاع عن الوطن والتصدي للظلم والاستعباد.
لكنّ البعد الوطني والقومي لم يُعْمِ رئيفًا عن شروط الإبداع الأدبي. فالالتزام بمبادئ "الأدب الصحيح"، أو "أدب الشعب"، لا يبرّر اعتمادَ الشعارات الفارغة والعبارات الطنّانة، ولا "الوصوصةَ من نويْفذة حكومة أو حزب" أو ما سمّاه "أدبَ الإلزام" (لا الالتزام). كما أنّ أدب الشعب لا يبرّر، بشكل خاصّ، اعتمادَ العاميّة. فرئيف، على تقديره لكثيرٍ من شعراء العامية اللبنانية أمثال ميشال طراد وعمر الزعنّي، يرى أنّ العامية تفرّق بين أبناء العروبة، بل ذهب إلى حدّ اعتبار الداعين إليها جماعةً "يريدون فصمَ عروةٍ حيويةٍ من عُرى وحدة القومية العربية" ("الأدب المسؤول"، ص 183).

5 ـ جبهة النضال الفكري والتنظيري
أتاح وجودُ رئيف خوري الفاعل على الجبهات كافةً، الناشطية والتأليفية والتربوية والنقدية، أن يطوّر مفهومًا متكاملًا ومترابطًا للنضال الوطني ـ القومي. فالحال أنّه لم يكن إنسانًا جامدًا من الناحية العقائدية، وإنّما راح يطوّر فكره على أساس قراءاته وتأمّلاته وأسفاره واكتشافاته وحركة الواقع والناس من حوله. لكنْ بقيتْ لديه بوصلةٌ واضحةٌ تُوجّهه في كلّ مساراته الغنية والمتشعّبة: بوصلة الخلاص من الصهيونية والاستعمار، وبناء مجتمع عربي حرّ وعادل وواحد.
1) فهو فلسطينيُّ الهوى بتأثير عواملَ كثيرة، لعلّ أهمَّها معايشتُه المباشرة للظلم البريطاني ـ الصهيوني لشعب فلسطين أثناء وجوده فيها زمنَ الإضراب الكبير عام 1936.
2) وهو ديمقراطي جمهوري علماني مؤمن بحقوق الإنسان، وذلك بسبب قراءاته الغزيرة في الآداب والنظريّات العالمية، وبسبب تأثّره ـ على وجه الخصوص ـ بأفكار الثورة الفرنسية.
3) وهو ماركسي شيوعي بتأثير من قراءاته للأدبيّات الماركسية، على ما يتجلّى في تبنّيه نظرةً ماديةً ديالكتيكية إلى تطوّر التاريخ، وفي اعتباره أنّ ذروة حقوق الإنسان هي في إنهاء الملْكية الخاصة في وسائل الإنتاج وأدواتِه ووضعِها "ملْكًا للشعب" وانحلال الحكومة والدولة في النهاية (من كتابه "حقوق الإنسان"، ص 12). وقد تعزّزتْ ثقته بالاشتراكية، أوّل الأمر، بعد زيارته للاتحاد السوفياتي عام 1947 ضمن وفد التعاون الثقافي بين لبنان والاتحاد السوفياتي.
4) وهو عاشقٌ لعروبته، تراثًا وحضارة. ولكنه، ولأسباب سياسية نهضوية مباشرة، أخذ يركّز ضمن التراث العربي ـ الإسلامي على العناصر الإنسانية التقدمية التي تضجّ بمقاومة الاستعباد (عمر بن الخطاب، جامع المحاربي،...) ومناهضةِ التفريق بين المذاهب (أبو العلاء المعرّي) وإيثارِ المساوة بين الناس (عروة بن الورد)، أو تدعو إلى التسامح الديني (الخليفة أبو بكر)، أو تبيّن بُعد العرب عن العنصرية (عنترة بن شدّاد). وفي قصصه ورواياته المقتبسة من التراث العربي، والموجّهة إلى الناشئة، تركيزٌ واضحٌ على تلك القيم، ودليلٌ ساطعٌ على عدم احتياج العرب إلى "استيراد" المبادئ التحررية والاشتراكية والمساواتية من فرنسا أو موسكو أو يوغوسلافيا لأنها موجودة في صلب تاريخنا وتراثنا العربي. وكان رئيف يزداد تشبثًا بعروبته كلّما آنس خطرًا استعماريًّا عليها، أو استشعر ـ على العكس من ذلك ـ تعزيزًا لوضعها (كما حصل بعد معركة بور سعيد عام 1956 وزيارته لمصر عام 1957).
5) وهو ذو نزعة استقلالية قوية، بتأثير من إيمانه بحقّ الشعوب في تقرير مصيرها، بعيدًا عن أيّ قهر أو إملاء أو وصاية.
كان رئيف خوري يربط هذه المبادئَ بعضَها إلى بعض، بحيث يرفض أحدَها إذا انعدمت الأخريات. ففي كتابه "حقوق الإنسان" (1938) آثر ديمقراطيةَ الاتحاد السوفياتي على ديمقراطية "الدول البورجوازية" لأنّ هذه "لا تؤمّن الجانبَ الاقتصادي لممارسة حقوق هذه الديمقراطية" (ص 66)؛ وهذا يعني أنّه ضدّ الديمقراطية ما لم ترتبطْ بالاشتراكية أو العدالة الاجتماعية. ولكنه في عزّ تمجيده لـ "بلد لينين" انتقد موافقةَ موسكو وبعضِ الأحزاب الشيوعية العربية على قرار تقسيم فلسطين عام 1947 إلى دولتين يهودية وعربية، وعدّها فيما بعد وصمةَ عارٍ لن تُمحى بسهولة؛ وهذا يعني أنّه ضدّ الشيوعيّة إنْ تنكّرتْ لفلسطين. ودافع عن قبول تيتو معونةً أميركيةً لإنعاش الاقتصاد اليوغوسلافي بعد أن حرمها إيّاها ستالين؛ وهذا يعني أنّه مع القرار السياديّ المستقلّ إذا اصطدم بمصالح دول أخرى ولو كانت "اشتراكية". وهو قومي عربي، لكنْ شرط محاربة الاستعمار، والتجديد، وتحقيق الاستقلال الوطني عن الجميع، وبناءِ الاشتراكية، وشرط أن تكون ديمقراطيّة تحرّرية؛ ومن هنا التزامُه، خصوصًا في السنوات العشر الأخيرة من عمره الهادر، بمقولة "القومية العربية التحررية الجديدة" تمييزًا لها من قوميّة "ذات اتجاه رجعي جامد ومتحجر" ("الأدب المسؤول"، ص 175).
على أنّ هذا الموقف "الترابطيّ" لم يأتِ إلّا على فترات، كما ألمعْنا. فحين أصدر في العام 1948 كتيّبًا بعنوان "الثورة الروسية: قصة مولد حضارة جديدة" دافع عن ديكتاتورية البروليتاريا بوصفها ديكتاتورية الشعب، وعن سلطة الحزب الشيوعي بوصفها سلطة الشعب. ولم يصل إلى الموقف الترابطي المتكامل إلّا في مرحلة لاحقة، مرحلةِ النهوض القومي العربي وكتاباته المكثّفة في مجلة "الآداب". وهذا ما عبّر عنه في مقالٍ نشره في عامها الأول، إذ أيّد الصداقة بين الشعوب العربية وبلدِ لينين شرطَ أن تكون (والكلامُ لعمر فاخوري كما اقتبسه رئيف منه) "صداقةَ وطنٍ مستقلّ لوطن مستقل، وشعبٍ حرّ لشعب حرّ، وجماهيرَ عاملةٍ لجماهير عاملة... صداقةً لا تعني تبعيةً منّا لأحد...أو مأموريّةً [لأحدٍ علينا]" (مجلة الآداب، 1953). وحين صمدتْ بورسعيد وانتصرتْ على العدوان الثلاثي عام 1956، اعتبر رئيف ذلك "برهانًا على أنّ الأمّة العربية والقومية العربية... اليوم كائنٌ يحيا وينمو وتثبت خطاه" (الآداب، 12، 1957، ص 3). وفي العام التالي، 1957، زار مصر، فأُعجب بابتعادها عن التمييز الديني، وبتمسّكها بصداقة الدول الاشتراكية من دون "الانجراف في تيار الشيوعية". عند هذه النقطة صار رئيف يجاهر "بأننا، كعرب، لا نريد أن نكون مرتعًا للقوة الشيوعية ترتعُ فيه، ولكننا في الآن نفسه نأبى أن نكون مرتعًا ترتعُ فيه دولُ الاستعمار الغربيّ" (الآداب، 2، 1957، ص 5)، وبات يؤكّد أنّ الأمّة العربية أو القومية العربية "ليست لفظًا يقال ولا هي حرتقة بورجوازية...لمجرّد أنّها ليست بروليتاريّة ولا شيوعية!" (الآداب، 12، 1957، ص4).
لكنْ، هل ثمة مطْرحٌ للبعد الوطني، اللبناني، وسط كلّ هذه الاهتمامات التراثية ـ الفلسطينية ـ المصرية ـ العروبية ـ السوفياتية ـ الاشتراكية ـ الفرنسية ـ الجمهورية؟ بالطبع. فلبنان هو نقطةُ البركار في مدار تفكير رئيف السياسي والاجتماعي. هو وطنُ السنديانة في نابيْه، حيث علّم أبوه أجيالًا من أهالي هذه القرية المتنيّة، بمن فيهم الطفلُ رئيف نفسُه. وهو الأرض التي زرع فيها نتاجَ عقله وقلبه. لكنْ، هنا أيضًا لم يكن التزامُ رئيف بلبنان ليتعارض بأيّ شكل من الأشكال مع انتمائه العربي، ولا مع نزوع رئيف الاشتراكي. فلئن غلب على لبنان الطابعُ القومي العربي (الآداب، 9 و10، 1958، ص 15)، فإنّه متقدمٌ على بقية الأقطار العربية "في تخفيف وطأة الإقطاعية وما يشبه الإقطاعية" (الطريق، 15/1/1942، ص 10)، وفي كون فلّاحيه "أوّلَ من نادى بحكم الجمهور والجمهورية" ـ وهما لفظان أدخلهما (في رأي رئيف) "بيطارٌ من لبنان اسمُه طانيوس شاهين" (النداء، 257، 1959).
وفي الختام فإنّ رئيف خوري كاتب ومناضل وطني منفتح، وقومي عربي متحرر، واشتراكي حرّ ومستقلّ. لم يتركْ بابًا لخدمة شعبة وأمّته إلّا طرقَه بثقة وإيمان... وحبّ نادر.

* (نص كلمة رئيس تحرير مجلة الآداب، التي ستصدر إلكترونية بعد شهور، في مؤتمر مئوية رئيف خوري. وكثير من المعلومات هنا مستقى من كتاب إدريس، "رئيف خوري وتراث العرب"، دار الآداب، 1986).