من «جل الديب» تحية إلى آل الحريري الذين برهنوا عن «وطنيتهم»
بعد استقالة الحريري التي فاجأ فيها حتى من في داخل الحكومة، وتوجه فيها إلى المتظاهرين، بالقول بأن «المناصب بتروح وتجي المهم كرامة وسلامة البلد» في ما بدا نوعاً من تقديم تنازل أمام الإرادة الشعبية، اشتغلت القنوات على موجة أخرى. تلقّفت الحدث، وأخذته إلى مكان آخر، إلى مساحة تمتدح الرجل، على خطوته وحفاظه على السلم الأهلي. علماً أنّ الحريري نال في موجة الاحتجاجات أقل نسبة هجوم عليه بين باقي الأفرقاء السياسيين، لا بل برز مديح له في كثير من الاستصراحات مع تمييزه عن باقي الطبقة السياسية. بعيد انتهاء الخطاب، غرّد بعض «إعلاميي الثورة» بالتوجه إليه، ومديحه بوصفه الرجل الذي تنازل للناس ونزل عن كرسيه تحت ضغط الشارع، وقام بعضهم بنشر صورة «سلفي مع الحريري من بيت الوسط، ضمن سياق دعائي يعرّي ركوب الموجة الثورية وتغيير الطاقم السياسي.
أول من أمس، وعلى وقع الاستقالة، والهواء المفتوح لساعات طوال، جهدت القنوات الرئيسية المتصدّرة لمواكبة الحراك الشعبي، لاستصراح المحتجين، وتظهير كلامهم الذي يصبّ في خانة صناعة صورة ناصعة للحريري ومن ورائه فريقه السياسي. lbci سألت أحد المتظاهرين في منطقة «جل الديب» عن استقالة الحريري ورضوخه للمطالب الشعبية وللمظاهرات التي عمّت البلاد، فأجاب: «بشكر دولة الرئيس ابن الشهيد رفيق الحريري... أثبت آل الحريري وطنيتهم». استصراح تعمدت المحطة تظهيره على موقعها الإلكتروني. وعلى «الجديد» التي نقلت أجواء «بيت الوسط» الذي عجّ بالمناصرين والمحازبين وبمفتي الجمهورية عبد اللطيف دريان أول من أمس، أطلّت علينا مراسلة المحطة ليال سعد لتخبرنا بأن «الضغوط على الاستقالة عارية من الصحة».
قبل كلمة سعد الحريري في بيت الوسط
وقصدت هنا، ما قيل عن ضغوط دولية وإقليمية دفعت الحريري إلى الاستقالة، عدا أنها نقلت أجواء «ارتياح» لديه. علماً أن مظهر الحريري لدى كلمته الأخيرة شُبّه بالحالة التي كان فيها إبان تقديم استقالته في الرياض عام 2017. إذاً أجواء احتفالية نقلتها الشاشات، كأننا أمام تحقق انتصار واضح وإسقاط الطبقة السياسية، بينما الظاهر الوحيد من هذه القصة، هو صعود نجم الحريري، وتكريسه زعيماً سياسياً «سنياً». وهذا ما بدا من خلال دعوة الإعلام إلى دارته، ونقل صور المحازبين الذين احتشدوا هناك، مع فريقه السياسي، واستصراح بعضه كوزير الاتصالات محمد شقير. هذا داخل «بيت الوسط»، أما في الخارج فقطع للطرقات هذه المرة، من قبل مناصري رئيس الوزراء اللبناني السابق، تحت ذريعة الاعتراض على استقالته وتقديم نفسه «كبش فداء» بين بقية أعضاء الحكومة. هذه الصورة لم تتظهر كفاية على «الجديد» بخلاف lbci التي راحت تتنقل مراسلتها ريمي درباس بين أوصال المناطق المقطوعة في «كورنيش المزرعة» و«المدينة الرياضية» لتنقل الشارع وكلّ ما من شأنه أن يزعزع السلم الأهلي في لحظة مفصلية وحساسة من تاريخ لبنان. ربما كان ينبغي للمحطة هنا، منع مناصري التيار الأزرق من الإدلاء بأيّ تصاريح، خاصة أنها غير مفلترة، وتتوجّه مباشرة إلى شخصيات وأحزاب من شأنها أن تفتعل فتنة في الشارع، لا سيما في مناطق تماسّ بين تيارات سياسية وطوائفية مختلفة. وبهذه الصورة أي مشهد نزول محازبي «الحريري» إلى الأرض، إلى جانب الغطاء الديني من المفتي واحتشاد المناصرين من حوله وحتى من الإعلام المحلي الذي دعم الحراك الشعبي وروّج لمطالبه، تتلخص التغطية ما بعد الاستقالة، ونضحي في نشرات الأخبار المسائية، أمام توجيه mtv تحية إلى الحريري والقول له: «لا لم تهزم، لقد خرجت من الحكم كبيراً منتصراً لإرثك التاريخي ولاقتناعك الراسخ بالديمقراطية وحرصك على المؤسسات والسلم الأهلي».
جهدت القنوات الرئيسية التي تجنّدت لمواكبة الحراك الشعبي، في صناعة صورة ناصعة للحريري
قناة المرّ التي قدمت نفسها في الأيام الخوالي على أنها صانعة الانتفاضة الشعبية وراعية لها، تكيل المديح على الحريري و«إرثه التاريخي»، كمرور سهل على الذاكرة وعلى المحاسبة. وعلى موقعها الإلكتروني، كُرِّست هذه الصورة عبر التلميح بأن هناك «إمكانية لاستهداف الحريري في هذه الظروف» من الداخل والإقليم، مع التشديد على أن «الحريري لا يحظى بأيّ دعم خارجي» بغية تقديمه كضحية وضرورة حمايته من باقي الأفرقاء السياسيين.
وفي تلخيص للصورة التي سادت الشاشات «الثورية» أول من أمس، بعد الاستقالة، «تنقية» لتاريخ الحريري السياسي، وتصوير للحريري الابن على أنه المنقذ الذي فدى الجموع، وسط تهاليل من إعلاميي «الثورة» وإعلامياتها، وفرش البساط الأحمر للبطل الآتي على ظَهر الثوار.