لم يعد قتل الفلسطينيين جماعات جماعات خبراً يستحق التوقّف عنده. فهنالك مرحلة يتوقف فيها العدّ عن أن يكون له أي معنى. يعتاد المرء على القتل حتى يصبح مملاً، وتكون حينها آلة الإجرام بحاجة إلى إمتاع الجمهور المتعطّش للدم بشيء جديد. هنا، يصبح إذلال الأسرى الفلسطينيين ترفيهاً، وتقارير معدّة لإمتاع المشاهدين، وإشباع عنصريتهم وإحساسهم بتفوقهم على «حيوانات» في نظرهم تجرّأت وخرجت من القفص في 7 تشرين الأول المنصرم. حين ظهرت برامج الترفيه التي تعرض حياة المشاركين لحظة بلحظة على مدار ساعات اليوم، لاقت نجاحاً منقطع النظير. لكنها كما كل فكرة جديدة تلاقي رواجاً في بادئ الأمر، فقدت هذه البرامج رونقها وجاذبيتها حتى اختفت كلياً عن الشاشات. الأمر عينه ينطبق على الإبادة الإسرائيلية الجارية في غزة. مذبحة تعرض يومياً منذ خمسة أشهر وبشكل مباشر على مرأى من العالم، حتى تحولت يومياتها إلى روتين. الجمهور في الكولوسيوم متعطّش للأكثر. أساساً المتعة ليست في القتل. اللذة عند المجرم هي في اللحظات التي تسبق القتل. الرعب الذي يمتلك الضحية، الإحساس بالقوة والسيطرة، القدرة على التحكم بحياة الآخرين... وهذا تماماً ما أدركته وسائل الإعلام الصهيونية لإبقاء جمهورها متشوّقاً ومتحفزاً للذبح، ومنعه من أن يشعر بالضعف أو الاستسلام. وما أفضل من تصوير الحياة داخل المعتقلات، بين الأسوار، التي يفترض عادة أن تبقى مخفية عن الأنظار ومحاطة بسرية. تراجعت جاذبية القتل في الهواء الطلق، فالنسل الجمهور بقتل الكرامات والروح والجسد رويداً رويداً في الزنازين وغرف التعذيب.
منتصف الشهر المنصرم ومطلع الشهر الجاري، عرضت قناتا التلفزة الإسرائيليتين 13 و 14 ثلاثة تقارير (واحد على القناة 13 و تقريرين على القناة 14)، تظهر إذلال المعتقلين الفلسطينيين في السجون الإسرائيلية، وكيفية معاملتهم اللاإنسانية، وفخر السجانين بممارساتهم.
تقرير القناة 13 عرض مطلع الشهر الحالي و«صوّر في أكبر سجن أمني في إسرائيل. واحد من أكثر السجون حراسة في إسرائيل، حتى في الأوقات العادية. وقد طلب منا عدم ذكر اسم السجن» وفقاً للمقدّم. يأوي السجن 2537 سجيناً بحسب التقرير، «جميعهم إرهابيون وكان من ضمنهم مروان البرغوثي الذي نقل منه منذ مدة. منذ أربعة أشهر، يُحتجز في هذا السجن مقاتلو النخبة في حماس، الذين يقفون خلف أحداث 7 تشرين الأول» وفقاً لزعمهم.
يدّعي نائب رئيس السجن الذي ينظم الجولة لمعد التقرير، أن بعض المساجين الذين رآهم شخصياً شاركوا في أحداث 7 تشرين الأول. «لكن الفرق أنهم هذه المرة خائفون، يرتجفون، ورأسهم في الأرض»، ليرد عليه المقدم «لا الله وأكبر إذاً هذه المرة»، ليجيب المسؤول «لا الله وأكبر. حتى صريرهم لن تسمعه هنا».
يسأل المقدم مضيفه ما «إذا كان يرى الكراهية في أعين المساجين»، ليرد الأخير «إنني أرى أيديولوجيّتهم عبر نظراتهم».
تسجن نخبة مقاتلي حماس في الجناح 10 في السجن كما يزعم التقرير. وقبل الدخول إلى الجناح، يصوّر أفراد الشرطة الملثمين وهم يأخذون احتياطاتهم، ويرتدون سترات مضادة للرصاص (من غير المفهوم من أين سيأتي الأسرى بالسلاح والرصاص في أكثر السجون حراسة في إسرائيل، هذا إن كان يسمح لهم أساساً بالزيارات وهو المستبعد) لإظهار مدى وحشية الفلسطيني وبأنه يبقى خطراً ولو في السجن. «فكل سيناريو ممكن، وكل شيء وارد بعد ما شاهدناه في 7 تشرين الأول» بحسب نائب رئيس السجن.
تتجه الفرقة الملثمة والمدرعة والمسلحة بالكامل إلى الجناح رقم 10. وفور فتح باب إحدى الزنزانات حتى يبدأ قائد المجموعة بالصراخ على المساجين بالعربية «رأسك على الأرض. نزّل راسك لتحت لتحت». من دون توقف، فيما نباح الكلب الذي يرافق المجموعة لا ينقطع. تصوّر لنا الكاميرا مجموعة من المساجين راكعين ورأسهم في الأرض وجميعهم بحسب نائب رئيس السجن «من النخبة في حماس».
ومنعاً لأي عاطفة إنسانية غير محسوبة من قبل المشاهدين، يحرص نائب رئيس السجن على التوضيح بأن «هذه الصورة عن المساجين خادعة. فهم يظهرون الآن هادئين، محايدين، غير مؤذيين، ولكن كل واحد منهم مسؤول عن العشرات من المجازر. إنهم قتلة ومغتصبو يهود».
ولأن المشاعر الإنسانية خدّاعة وممنوعة، فإن أعين المساجين معصوبة، وأرجلهم وأيديهم مقيدة ببعضها، وهم يجثون على ركابهم. وضعية ترضي نائب رئيس السجن الذي يقول بأنهم «هكذا يجب أن يبقوا». وفي الزنزانة «أسرّة بلا فراش، ومجرّد جورة عبارة عن حمام. أما الظلمة فشبه كاملة طوال اليوم».
ولأن ما يقومون به مدعاة للعز، تصدح في أروقة الجناح بشكل متواصل موسيقى صاخبة لنشيد «يحيا شعب إسرائيل»، التي بحسب نائب رئيس السجن تسهم مع أغاني أخرى في «رفع معنويات طاقم العمل في السجن. الشعور هو شعور بالفخر». ويستدرك المقدم بأن هذه «الموسيقى الصاخبة تخدم أيضاً الحرب النفسية ضد المساجين».
فخر يرافق نائب رئيس السجن داخل الزنزانة. «أشعر بالفخر بأنني في هذه الزنزانة. بأننا أعلى منهم. بأننا من قبض عليهم. الشعور بالسيطرة قوي جداً».
وهنا يأتي دور قائد فرقة التدخل الذي يصرح بـ «إننا نسيطر عليهم %100. أكلهم، أصفادهم، نومهم. نصحيهم من النوم عند منتصف الليل لنظهر لهم أننا أصحاب المنزل».
أما أحد أفراد الفرقة فيؤكد بأنهم «يعملون من دون عاطفة. وضعنا العاطفة جانباً».
ويبدو أن مسألة أكل المساجين تأخذ حيّزاً واسعاً من النقاش، حيث يظهر من تعليق المقدم بأن هنالك امتعاضاً من الأكل الذي يمكن أن يقدّم إلى المساجين، حيث يقول لنائب رئيس السجن «كان هنالك الكثير من الحديث عن لائحة الطعام التي تقدم إلى المساجين، وبأنهم يحصلون على دجاج وحلويات»، ليريه نائب رئيس السجن ما الذي يحصلون عليه وهو عبارة عن «أرز، خضار وحمص. فقط. لا حلويات. لا لحم. لا شيء على الإطلاق. لا يوجد حتى غسالة ليغسلوا ملابسهم».
التقرير بحد ذاته مضبطة اتهام، وكفيل بسوق القائمين على السجن إلى المحاكمة في أي بلد يؤمن بالحد الأدنى من حقوق الإنسان. لكنه في الكيان العبري، موضع فخر، ويعرض علناً، وهو أشبه بفيلم دعائي وترويجي يهدف إلى رفع معنويات الإسرائيليين، وتسليتهم وإشباع ساديتهم وإحساسهم بالتفوق.
فالإعلام يمشي خلف أهواء المشاهدين. والجمهور الصهيوني متعطش للانتقام، وهو ما يؤكده إحصاء حديث أعده The Israel Democracy Institute بين 12 و 15 شباط (فبراير) المنصرم، ونشرت نتائجه في 20 شباط ويظهر أن %68 «اليهود» بحسب توصيف المركز يعارضون نقل المساعدات الغذائية والدوائية إلى سكان غزة حتى من قبل هيئات دوليّة غير مرتبطة بـ «حماس» أو الأونروا. كذلك يكشف الإحصاء أن %55 من «اليهود» يعارضون التوصل إلى أي اتفاق سلمي لوقف الحرب يؤدي إلى تحرير الأسرى الإسرائيليين، مقابل وقف طويل لإطلاق النار واتفاق سلام مع السعودية وإنشاء دولة فلسطينية منزوعة السلاح.