إيلي شلهوبيشهد العراق اليوم مرحلة لا ريب في أنها من بين الأكثر حساسية في تاريخه الحديث. انسحاب أميركي تُسلّم الأطراف العراقية كلها بحتميّته، تسبقه عملية اقتراعية في 7 آذار، هي الثالثة من نوعها منذ 2005 والأخيرة في ظل الاحتلال، على ما نرجو. استحقاق لا شك في أنه سيحدد الهوية السياسية لبلاد الرافدين على مدى سنوات، بل عقود مقبلة. اللعبة الانتخابية دخلت «النصف النهائي»، وفيه تزداد حدة التوتر ويستشرس اللاعبون من أجل انتزاع انتصار، يراه كلٌ منهم مطلباً مصيرياً، بل وجودياً له وللجماعة التي يمثّلها. والجماعة هنا تستند إلى عناصر ثلاثة لا رابع لها: مذهبي وعرقي وسياسي، أدّت دور ضابط الإيقاع للصراع الداخلي على مدى السنوات السبع الماضية، برعاية ومعيّة المحتل الأميركي الذي يدرك الجميع أنه لا فرصة لتغيير المعادلة الداخلية بعد مغادرة جيوشه: الشيعة لتثبيت الامتيازات والسنة لاستعادة بعض منها.
لعل أبرز ما يعبّر عن هذا الواقع، تلك المجزرة التي نفذتها هيئة لا أسس قانونية لها، في حق أكثر من 500 مرشح بتهمة الانتماء إلى حزب البعث المنحل، في خطوة ملتبسة يبدو واضحاً أن أسبابها انتخابية، لكنها تهدد بإعادة خلطٍ للأوراق، ربما تلامس عودة الاقتتال المذهبي.
خطوة توقيتها مثير للاستغراب: بعد ساعات من وصول منوشهر متكي إلى بغداد في السابع من كانون الثاني.
الجهة الصادرة عنها موضع تشكيك: هيئة المساءلة والعدالة التي حلّت مكان هيئة اجتثت البعث، بأعضائها أنفسهم الذين يعدّون من أنصار نوري المالكي. رئيسها أحمد الجلبي (المرشح) الغني عن التعريف، الذي تخلّى عنه سيده الأميركي في 2004 بعدما اكتشف كذبه وعلاقته بإيران، ونائبه علي اللامي (مرشح عن التيار الصدري) الذي كان معتقلاً لدى القوات الأميركية بتهمة الارتباط بطهران وأطلق في صفقة تبادل مع عصائب أهل الحق.
السياق الذي رافقها مثير للالتباس: بعدها بخمسة أيام جرت محاولة لتنفيذ هجوم كبير في بغداد، قُدم على أنه محاولة انقلابية (نفتها الحكومة) ينفذها ضباط بعثيون في الجيش العراقي. وانطلقت بعدها جوقة الترويج لمقولة عودة البعث من خلال صناديق الاقتراع، في محاولة من الأحزاب الشيعية لرص الصفوف خلفها بعد ما منيت به من انتكاسة في «المحافظات».
الشخصيات التي استهدفتها موضع سجال: القياديان السنيان صالح المطلك وظافر العاني (من مساعدي طارق الهاشمي) وقد حققا نتائج مقبولة في الانتخابات المحلية الأخيرة، وهما ينتميان إلى لائحة أياد علّاوي (العراقية)، الأكثر قدرة على مواجهة ائتلاف المالكي (دولة القانون) والتحالف الشيعي (الائتلاف الموحد).
صحيح أن ثلثي الأسماء التي شملتها لائحة المجتثين، كما اتضح في ما بعد، من الشيعة. وصحيح أيضاً أنها تطال نحو 30 مرشحاً من لائحة المالكي، يتقدمهم وزير الدفاع السني عبد القادر العبيدي، و20 مرشحاً من «الائتلاف الموحد». لكن ذلك لم يمنع ردة الفعل المباشرة التي صوّرت الأمر على أنه استهداف للسنّة. ولذلك ما يبرّره، على الأقل في عقول العراقيين، حيث الاقتناع بأنه لا مصلحة للأحزاب المذهبية الشيعية في اقتراع سني كثيف (عبّر عن نفسه للمرة الأولى في الانتخابات البلدية) لن يعطيها الغالبية التي تتمتع بها حالياً في البرلمان، وبالتالي فإن ما حصل خطوة لتحييد الشخصيات السنية القوية.
تفسير لا شك في أن هناك من له مصلحة في الترويج له، لغايات متعددة، لعل إحداها دفع السنّة إلى التصويت بكثافة وألا يكرروا خطأ المقاطعة. وقد فاقمت من تداعياته حقيقة أن ميليشيات الصحوات قلقة على مصيرها في ظل الانسحاب الأميركي المرتقب ونبذ الحكومة لها (تطوّع 50 ألفاً فقط من أصل أكثر من مئة ألف) وحقيقة أنها عرضة لضربات «القاعدة» والمقاومة.
ومع ذلك، يبدو واضحاً أنها خطوة تستهدف على وجه الخصوص لائحة علاوي، التي نجحت في أن تكون عابرة للأعراق وللمذاهب، وذلك حيث فشل المالكي الذي اعتمد على العصب العشائري الشيعي مع تلاوين سنية. واقع يعزز من فرص فوزها، على ما أظهرته انتخابات المحافظات التي دلّت على توق العراقيين إلى التكتلات الوطنية، لا المذهبية، إضافة إلى تشتت الصوت الشيعي بين «الائتلاف الموحد» و«دولة القانون»، وضعف اللائحة السنية المكوّنة من بقايا «التوافق».
يشار هنا طبعاً إلى وجود لائحة أخرى قوية، تضمّ محمود المشهداني (سني) وأحمد أبو ريشة (أبرز زعماء الصحوات) ووزير الداخلية جواد البولاني (شيعي)، أقوى المرشحين لخلافة المالكي، وقد طالت لائحة التصفيات 67 من مرشحيها. لكن ميزة لائحة علاوي أنها تضم «براغماتيين»، مع ما تعنيه هذه الكلمة من معانٍ، وتشكل تقاطعاً، ربما يحصل للمرة الأولى منذ احتلال العراق، بين الولايات المتحدة وسوريا والسعودية، لأنها تضم شخصيات تتمتع بعلاقات جيدة مع هذه الدول وتحظى بدعمها.
هذه حسابات أهل الدار. أما المحتل فيسعى جاهداً إلى عملية اقتراعية غير مشكوك في شرعيتها، تحظى بإشادة المجتمع الدولي، وتخوّله ادّعاء تحقيق إنجاز وتسليم السلطة إلى «حكومة منبثقة من الشعب» تمهّد لانسحابه في آب، بعدما أعاد التوازن إلى تحالفاته الداخلية العراقية مع إعادة وصل ما انقطع مع السنّة في 2007، واطمأن إلى توزيع الحصص النفطية.
خلاصة من وحي «كليلة ودمنة»: فئران تتقاتل على قطعة الجبن، وقطّ مرهق لا يفكر سوى بيوم الرحيل.