بولس الخوري *
السؤال عن اختلاف الانتماء الدينيّ بين البشر قد يسبقه سؤال أوّل: لماذا أنت مؤمن، بدلاً من أن تكون غير مؤمن؟ وجوابي أنّ المؤمن، حاله كحال غير المؤمن، فيكون السؤال نفسه يشير إلى جواب ممكن. فللبيئة العائليّة والاجتماعيّة وللتربية الأثر البالغ في كون الواحد غير مؤمن أو مؤمناً، مسلماً كان أو نصرانيّاً أو يهوديّاً... أو بوذيّاً أو هندوسيّاً أو غير ذلك من أهل الأديان والملل.
إلاّ أنّنا نرى بعض الناس ينتقلون من دين آبائهم وبيئتهم إلى دين آخر، كأن يصير المسلم نصرانيّاً (وهذا ما ندر)، أو يصير النصرانيّ مسلماً (وهذا كثيراً ما حدث في القديم وقد يحدث أيضاً في الحديث)، أو يصير اليهوديّ نصرانيّاً أو مسلماً... أمّا الدافع إلى مثل هذا الانتقال فقد يكون لمصلحة دنيويّة، اجتماعيّة الطابع أو اقتصاديّة أو غير ذلك.
وقد يكون عن اقتناع بعد تفكير شخصيّ، أو بفعل تأثير إنسان يتّخذه المنتقل مثالاً له يُحتذى، أو يكون في نظر المؤمن بفعل هدْيٍ من لدن الله إلى هذا الدين أو ذاك. وقد يفترض هذا الهدْي الإلهيّ عند المتديّن وعند المنتقل إلى دين آخر اعتقاداً بأنّ الله قد ارتضى جميع الأديان على السواء، فكان أنّ الله نفسه قد هدى اليهوديّ أو النصرانيّ إلى الإسلام، أو قد هدى اليهوديّ أو المسلم إلى النصرانيّة... لكنّ مثل هذا الانتقال يبدو حالةً نادرة، أو شاذّةً عن القاعدة.
فكما كان يُقال في القديم إنّ الشعوب على دين ملوكهم، كان الناس على الدين الذي تلقّوه في أسرتهم وبيئتهم ووفقاً
لتربيتهم.
ثمّ في المقابل، عند رؤية التعدّد في الأديان، مع ادّعاء كلّ دين أنّه هو الحقّ، أي هو المنْزَل من عند الله، وعند رؤية تعدّدٍ دينيّ غالباً ما أفضى ويُفضي إلى التصادم الكلاميّ أو الحربيّ، أو إلى الإكراه في الدين، وذلك على الرغم ممّا ورد في القرآن: لا إكراه في الدين (البقرة 256)، سواء كان الإكراه من فعل النصارى أو من فعل المسلمين. عند هذا كلّه قد يحار الواحد في أمره، وقد يختار الابتعاد عن الأديان جميعاً، فيصير غير مؤمن بأيّ واحد منها.
ثمّ قد يقوم الواحد، مؤمناً كان أو غير مؤمن، بالبحث العقليّ المحض (منهجيّاً) عن ظاهرة الدين والأديان، فيتبيّن له أنّ جوهر الدين أيّ دين إنّما هو طلب المطلق، أي طلب الله في نظر المؤمن، أو طلب اكتمال الإنسانيّة في الإنسان في نظر غير المؤمن أو المؤمن الحياديّ (منهجيّاً). وأنّ هذا الجوهر، أي طلب المطلق، قد يعبَّر عنه، بالوسائل التعبيريّة المتاحة في كلّ ثقافةٍ من الثقافات، في شكل أنظومة تتكوّن من عقائد وعبادات وأخلاق ونظُم. فيكون أنّ اختلاف الأديان، أي الأنظومات الدينيّة، مردّه إلى اختلاف الثقافات وما لها من وسائل التعبير. فتكون قد تلاقت هذه النظرة إلى الدين والأديان ونظرة المؤمن الذي يرى أنّ الله يهدي إلى هذا الدين أو ذاك كما يشاء، ونظرة العارف أو المتصوّف القائل بإسقاط الوسائط طلباً لله الواحد، وإن تنوّعت إلى حدّ التناقض أحياناً تصوّرات الناس لله، وهو غير المدرَك في ذاته، حيث ليس كمثله شيء (الشورى 11)، وإن جوّز المؤمن لنفسه الكلام في الله، فارضاً عليه أن تكون له هذه الصفات، وألا تكون له تلك، وفقاً لما يبدو للإنسان أنّه لائق أو غير لائق بالمقام. فكان هذا المؤمن مشبّهاً من حيث لا يدري، جاعلاً الله مماثلاً للإنسان.
* كاتب لبناني